التركيبة الخاطئة للرئاسي    وادي حضرموت على نار هادئة.. قريبا انفجاره    أين أنت يا أردوغان..؟؟    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    حكومة بن بريك غير شرعية لمخالفة تكليفها المادة 130 من الدستور    العدوان الأمريكي يشن 18 غارة على محافظات مأرب وصعدة والحديدة    اعتبرني مرتزق    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    رسائل حملتها استقالة ابن مبارك من رئاسة الحكومة    نقابة الصحفيين اليمنيين تطلق تقرير حول وضع الحريات الصحفية وتكشف حجم انتهاكات السلطات خلال 10 سنوات    3 عمليات خلال ساعات.. لا مكان آمن للصهاينة    - اعلامية يمنية تكشف عن قصة رجل تزوج باختين خلال شهرين ولم يطلق احدهما    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    شاب يمني يدخل موسوعة غينيس للمرة الرابعة ويواصل تحطيم الأرقام القياسية في فن التوازن    بدعم كويتي وتنفيذ "التواصل للتنمية الإنسانية".. تدشين توزيع 100 حراثة يدوية لصغار المزارعين في سقطرى    قرار جمهوري بتعيين سالم بن بريك رئيساً لمجلس الوزراء خلفا لبن مبارك    غرفة تجارة أمانة العاصمة تُنشئ قطاعا للإعلان والتسويق    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    عدوان أمريكي يستهدف محافظتي مأرب والحديدة    اجتماع برئاسة الرباعي يناقش الإجراءات التنفيذية لمقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية    وزير الخارجية يلتقي رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر    تدشين التنسيق والقبول بكليات المجتمع والمعاهد الفنية والتقنية الحكومية والأهلية للعام الجامعي 1447ه    وفاة عضو مجلس الشورى عبد الله المجاهد    أزمة اقتصادية بمناطق المرتزقة.. والمطاعم بحضرموت تبدأ البيع بالريال السعودي    الطيران الصهيوني يستبيح كامل سوريا    قرار بحظر صادرات النفط الخام الأمريكي    أزمة جديدة تواجه ريال مدريد في ضم أرنولد وليفربول يضع شرطين لانتقاله مبكرا    مصر.. اكتشافات أثرية في سيناء تظهر أسرار حصون الشرق العسكرية    اليمن حاضرة في معرض مسقط للكتاب والبروفيسور الترب يؤكد: هيبة السلاح الأمريكي أصبحت من الماضي    إنتر ميلان يعلن طبيعة إصابة مارتينيز قبل موقعة برشلونة    منتخب الحديدة (ب) يتوج بلقب بطولة الجمهورية للكرة الطائرة الشاطئية لمنتخبات المحافظات    الحقيقة لا غير    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    أسوأ الأطعمة لوجبة الفطور    سيراليون تسجل أكثر من ألف حالة إصابة بجدري القردة    - رئيسةأطباء بلاحدود الفرنسية تصل صنعاء وتلتقي بوزيري الخارجية والصحة واتفاق على ازالة العوائق لها!،    الفرعون الصهيوأمريكي والفيتو على القرآن    الجنوب يُنهش حتى العظم.. وعدن تلفظ أنفاسها الأخيرة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 3 مايو/آيار2025    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    إصلاح الحديدة ينعى قائد المقاومة التهامية الشيخ الحجري ويشيد بأدواره الوطنية    عدوان مستمر على غزة والاحتلال بنشر عصابات لسرقة ما تبقى من طعام لتعميق المجاعة    اللجنة السعودية المنظمة لكأس آسيا 2027 تجتمع بحضور سلمان بن إبراهيم    خلال 90 دقيقة.. بين الأهلي وتحقيق "الحلم الآسيوي" عقبة كاواساكي الياباني    الهلال السعودي يقيل جيسوس ويكلف محمد الشلهوب مدرباً للفريق    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن وضرورة فك الارتباط
نشر في المصدر يوم 23 - 01 - 2012

لسنا في حاجة إلى فيدرالية شوهاء تمزّق وتعمق انقسامات هذا الكيان الوطني المنهك والمهشم بما فيه الكفاية، نحن، بالأحرى، في حاجة إلى كيان سياسي جديد، على أنقاظ النظام العائلي المسخ، يساعد على لملمة الشتات اليمني، المثقل بالتخلف والانقسامات والتناقضات والفقر، في دولة وطنية مركزية ديمقراطية مدنية حديثة ، قوية وناهضة، تمنح صلاحيات واسعة للمناطق اليمنية المختلفة لكي تؤدي وظائفها بمرونة وفعالية، وتهدف، في الوقت ذاته، إلى تقوية التكامل والترابط بينها، ولا تنزع إلى تعميق انقسامات الدولة القائمة وإنما تفضي إلى تعزيز سيادتها الكاملة على أراضيها.
في حالتنا الراهنة، ضعف المركز يؤدي إلى تباعد الأطراف، وضغط الخارج يفضي إلى تخلخل الداخل، وبالتالي فإن المهمات العاجلة أمام الحكومة الانتقالية والرئيس المرتقب هي تقوية المركز من خلال بناء المؤسسات السيادية، وجذب الأطراف الفالتة والمنفلتة منه، وتعزيز مكانة الدولة الوطنية للحؤول دون تآمر الخارج وتخلخل الداخل ، الذي من شأنه أن يفضي إلى تلاشي الكيان الوطني.
الدولة الرخوة والفيدرالية
الدولة اليمنية القائمة رخوة وضعيفة وعاجزة عن تأمين حاجات مواطنيها الأساسية، ناهيكم عن تأمين التواصل الطبيعي بين أجزائها المختلفة والمتخلفة، وفرض سيادتها الكاملة على أراضيها وحدودها البرية والبحرية. واليمن منهك بالصراعات المختلفة ومثقل بالانقسامات السياسية والقبلية والجهوية والطائفية، ومسكون بالفوضى وملغوم بالقوى المتطرفة العمياء، التي لا تدرك موطئ أقدامها ولكنها تزعم أنها ستنقذ السماء من خطايا الأرض.
اليمن يثير اهتمام العالم لأنه يقع أسفل ذلك المخزون النفطي الهائل، ومَوْبوء بتنظيم القاعدة، ويشغل موقعاً استراتيجيا هاماً من خلال إطلاله على الممرات الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، والبحر العربي وخليج عدن إلا أن اليمن ليس دولة نفطية غنية كمثيلاتها في السعودية والخليج، التي تقع في بؤرة الاهتمامات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية للغرب، وبالتالي لا يُنظر إليه بالأهمية نفسها، وإن كان يتعرض في السنوات الأخيرة لضغوطات متزايدة، بقصد تحقيق الاستقرار وكبح النفوذ المتزايد لتنظيم القاعدة ، غير أن العالم له مصالحه المتغيرة و لن يظل يرعانا مثل طفل كسيح، وعلينا أن ننهض من كبوتنا سريعاً، ونستجيب لشعبنا الذي صنع أعظم ثورة شعبية في التاريخ المعاصر.

على أن التسليم بالانقسامات اليمنية المتعددة، والضغوطات الإقليمية والدولية لا ينبغي أن يفضي بنا إلى الاستسلام للرغبات المجنونة لذوي الأهواء الضيقة والمصالح الجهوية والطائفية ، والخضوع لمطامح القوى الخارجية التي تستهدف وطننا. والأمر الجوهري هو: هل ستشكل الفيدرالية اليمنية المقترحة مخرجاً ناجحاً من الأزمة القائمة؟
أعتقد أن الفيدرالية بإقليمين، في ظل ضعف الدولة المركزية ، ستفضي إلى انفصال اليمن إلى دولتين مستقلتين متنافرتين، قابلة للتفتت، أما الفيدرالية بثمانية أقاليم فإنها ستفضي إلى تقسيم اليمن إلى ثماني دول قزمية متنافرة، متصارعة، ومتحالفة ومسنودة من قوى خارجية متعارضة في مصالحها وأهدافها: سعودية، وإيرانية، وغربية وإسرائيلية، وستستمر دراما الصراع في اليمن إلى أن نتعفن ونتلاشى كوطن وكأمة.

فالسؤال المنطقي هو: إذا كنا غير قادرين أن نعيش كدولة موحدة، فكيف يمكن لنا أن نعيش كدول متنافسة، أو حتى كولايات متنافسة في إطار دولة واحدة إذا كُتب للفيدرالية أن تنجح وهو ما لا أعتقده؟

اعتماد الفيدرالية يمكن أن يكون حلاً سياسياً ناجحاً في ظل مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، كالهند أو ماليزيا أو نيجيريا، أو كما كان الحال في يوغسلافيا ، ولكن حتى في الحالة اليوغسلافية، فإن الفيدرالية لم تنجح إلاَّ في ظل دولة مركزية قوية وفي ظل زعامة تاريخية فذة مثل جوزيف بروز تيتو. فهل ستنجح الفيدرالية اليمنية في ظل قيادة عبد ربه منصور هادي أو حيدر العطاس أو عبد الملك الحوثي أو علي ناصر محمد أو اليدومي أو عبد الوهاب الآنسي أو غيرهم؟
الدولة اليوغسلافية الفيدرالية، التي ضمت صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك، عقب الحرب العالمية الثانية، كانت مستقرة وناهضة وقائدة طليعية في دول عدم الانحياز ، ولكن كان كل ذلك بفضل الدولة المركزية القوية الجاذبة، المركز العصبي للولايات المختلفة، تحت القيادة القوية للزعيم جوزيف بروز تيتو، وفي ظروف الحرب الباردة، ولكن ما إن غابت زعامة تيتو الاستثنائية بفعل الموت، وحل محله الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، المعطوب بالنزعة القومية والجهوية الضيقة ،(بالمناسبة لدينا مثله عدد لا يحصى!) حتى أطلّت دول مثل كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك برؤوسها الحاسرة، مثل ثعابين مجنونة، مستفيدة من ضعف الدولة المركزية، وسقوط المعسكر الاشتراكي، وتنامي قواها الذاتية والاستقراء ببعض الأطراف الخارجية، وشرعت تطالب بفك الارتباط، ونجحت في ذلك، ولكن عقب حرب عرقية هائلة أودت بحياة مئات الآلاف، وهزت بمأساويتها الفاجعة الضمير العالمي، ودفعته في اللحظات الأخيرة للتدخل لإنقاذ سكان البوسنة والهرسك أو ما بقى منهم على قيد الحياة.

لكن اعتماد الفيدرالية في ظل دولة مركزية ضعيفة كاليمن، في مجتمع مكون من واحدية عرقية وثقافية وتاريخية وجغرافيا مشتركة، في ظل زعامات ضعيفة جهوية وقبلية وطائفية متخلفة، لن ينقذنا مما نحن فيه، وسيفضي بالضرورة إلى تمزيق اليمن وتلاشيه ككيان سياسي. والضمير العالمي المضحك، المهموم بمصالحه الجيوسياسية، لن يولي اهتمامه لليمن واليمنيين، وسيتركنا نأكل بعضنا ونتعفن ونموت ونخلَّص العالم من تخلفنا وشرورنا. فنحن لا نقع في أوروبا، كسكان البوسنة والهرسك، ولسنا كالمستوطنين اليهود في فلسطين المحتلة، أو كالمستوطنين البيض في دولة زيمبابوي أو جنوب أفريقيا.
الشعوب التي على شاكلتنا المثقلة بالبؤس، المنسوجة بالفقر والتخلف والقسوة بسبب نخبها السياسية تتقاتل على دجاجة، وتأكل بعضها، وتتفاخر بتخلفها المقيت، مرددة أقوال بلهاء: هذا جنوبي وهذا شمالي، هذا زيدي وهذا شافعي، هذا متقدم وهذا متخلف، وهذه ، بالقطع، ليست رؤى مستقبلية، فضلاً عن أنها أقوال لا تثير عطف العالم واحترامه، وإنما تثير تقززه واحتقاره، وهذه الشعوب لا تستنفر العالم لينتصر عليها ويكبح قواها وتطلعاتها الإقليمية المتنامية ، لأنه يعرف أنها غارقة في وحل التخلف، وهو وإن كان طامعاً فيها ، إلاَّ أنه ليس في حاجة إلى هزيمتها، لأنه يعرف ، أنها ، تحوي جرثومة فنائها في داخلها، وقادرة أن تهزم نفسها بنفسها نيابة عنه، دونما حاجة إلى تدخله المباشر ، تماماً ، كما مهدت القوى الإقطاعية في الماضي ، من خلال صراعاتها وتمزقها ، للاحتلاليين البريطاني والعثماني في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
الفيدرالية والمفارقة المحزنة
الدولة اليمنية القائمة اليوم تشبه شخصية «ليني» في رواية «الفئران للرجال» للكاتب الأمريكي الشهير جون استنبيك ((John Steinbeck. إما دعاة الفيدرالية فإنهم يشبهون شخصية «جورج» في الرواية ذاتها. الرواية صغيرة الحجم ولكنها غنية بالمفارقات وبالتفاصيل الإنسانية المثيرة. وهي تدور عن حياة مجموعة من العمال، الذين كانوا يعملون في إحدى المزارع في الثلاثينات من القرن المنصرم ، إبّان الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عصفت بالعالم الرأسمالي . أما أبرز شخصيتين فيها فهما جورج وليني. الأول متوقد الذهن للغاية، والثاني متبلد الذهن للغاية. الأول قصير وقوي ولماح، والثاني عملاق ولديه قوة حصان ولكنه محدود الخيال وغير مكترث بالمخاطر.
ولذلك كان على جورج أن يهتم بليني ويرعاه ويجنبه المشاكل المحتملة التي يمكن أن تعترضه في مسيرة الحياة، غير أن ليني لم يلتزم بتوجيهات جورج في كل الأوقات، بسبب عدم التناسب بين قوة أطرافه القوية، وضعف عقله العاجز عن التحكم بحركة تلك الأطراف. ولذلك حينما كان يلمس فأرا أو أرنباً أو جرواً صغيراً، وينفرد به، ويداعبه فرحاً به، كان يضغط عليه، دون قصد، ويقتله، وكان هذا أمراً، رغم بشاعته، يمكن تفهمه والتسامح معه، ولكن ذات مساء، وبينما كان جورج بعيداً عن ليني، مع أصدقائه في إحدى النوادي منهمكاً في لعبة الورق، كان ليني، بمفرده، يعبث بجرو نافق كان قد قتله للتو، وفجأة ظهرت زوجة ابن صاحب المزرعة «ارلي». كانت ترتدي ملابس قطنية ذات ألوان زاهية، وفي قدميها حذاء مزخرف بريش النعام، اقتربت من ليني وطلبت الحديث معه. ارتبك ليني للوهلة الأولى، وحاول أن يتجنبها، تمسكاً بنصائح صديقه جورج، لكن كان إغراء الحديث مع جارلي لا يُقاوم.
كانت جارلي امرأة شابة، هيفاء القوام، لها شعر أشقر ووجه باسم، يطفح بالأنوثة وعينان زرقاوان ساحرتان، لم يستطع ليني أن يرفضها ويمتنع عن الحديث معها. وبالتالي اقترب ليني منها، ولم يكن، بالطبع، ينوي بها شراً، ولكنه لمس شعرها الناعم المسترسل فوق كتفيها العاريتين، ثم لمس عنقها البض، فضغط عليه معجباً، كما كان يعمل مع الأرانب والفئران، فماتت. فارتبك ليني، ولعن حظه التعيس، وذهب إلى مكان قصي في الغابة، كان قد حُدد له من قبل صديقه «جورج» ليذهب إليه إذا ما اعترضته مشكلة ما، فذهب ليني وانتظر هناك بحسب الاتفاق المسبق بينهما. وحينما عرف ابن مدير المزرعة بمقتل زوجته أدرك على الفور أن القاتل هو ليني، نظراً لما كان يتمتع به من قوة عاتية وغباء كبير. فحشد مجموعة كبيرة من الأشقياء وذهب يبحث عنه لكي ينتقم منه. غير أن جورج كان يعلم ، دون غيره، بالمكان الذي اختفى فيه ليني ، فأسرع بالذهاب إليه. وحينما وجده تحدث إليه بشكل ودي عن الأرانب والفئران وبعد دقائق قليلة طلب منه أن ينظر إلى الاتجاه المعاكس، ففعل وظل جورج مسترسلاً في حديثه، وبينما كان ليني يستمع إليه باستمتاع واضح ، أخرج جورج مسدسه وصوبه نحو رأس صديقه الحميم، وضغط على الزناد، وأطلق عدة رصاصات ، فقتله خوفاً عليه من الموت، وهنا تنتهي القصة وتبقى عبرتها العميقة.
كانت مشكلة ليني، بالطبع، هي ضعف مركز التحكم في عقلة وعجزه عن السيطرة على أطرافه القوية. وهو من هذه الزاوية يشبه الدولة اليمنية المنهكة، الفاقدة العقل، العاجزة على السيطرة على أطرافها القوية في صعدة وحضرموت ومأرب وغيرها، لكن الدولة رغم ذلك مازالت تتمتع ببعض النفوذ . أما مشكلة جورج فتكمن في الإخلاص والذكاء الحاد اللذين يتمتع بهما، وهو، هنا ، يشبه دعاة الفيدرالية، فهم أذكياء ومخلصون للدولة اليمنية، ولكن إخلاصهم يشبه إخلاص جورج لليني، ذلك أن حبهم الجارف لها سيفضي بنا إلى ضياع دولتنا حرصاً عليها من الضياع، وهذه هي المفارقة المحزنة!
وماذا بعد؟
إذا كانت الدولة المركزية الظالمة الفاسدة المتخلفة الفاقدة العقل القائمة على أساس عائلي قد قادت إلى ظهور مراكز قوى متعددة، وهشّمت الدولة وأضعفتها وخلخلت سلطاتها، فالفيدرالية من شأنها في الوضع القائم أن تعمق هذه الانقسامات وتقود إلى تفتيت الوطن وتلاشي سلطة الدولة المركزية. فما الحل إذن؟ هل يكمن الحل في فك الارتباط بالصيغة التي طرحها السيد علي سالم البيض، أم أن هناك مخارج أخرى؟
في البدء يجب الاعتراف أن لدينا أعداء كُثُر في هذا العالم، ولكنهم قطعاً ليسوا هم المواطنين الجنوبيين أو الشماليين، الشرقيين أو الغربيين، أو الشوافع أو الزيود، أو الحوثيين أو السلفيين، أو الحراكيين أو الإصلاحيين، ولا شك أيضاً أن هناك أطماعاً ومصالح إقليمية ودولية تستهدف اليمن، ولكن عدونا الحقيقي لا يكمن في أي من هذه الدوائر، عدونا يكمن فينا، يسكن في عقولنا، يعبث بحياتنا، وهذا العدو الماكر اسمه التخلف، وهو يشملنا جميعاً (وإن بنسب متفاوتة) وهو العدو الذي يشوش رؤيتنا الحقيقية للواقع الموضوعي ، وبالتالي فإن أوجب الواجبات أن نفك ارتباطنا به ونتحرر منه إلى الأبد.
خلطة التخلف التي تعصف بحياتنا هي: الكسل العقلي والجسدي والاتكالية وانتهاك حقوق الإنسان والفساد واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والتعصب بمظاهره المختلفة: القبلي والجهوي والطائفي، والانغلاق على الذات، وهيمنة الفكر الخرافي، والازدواجية في المواقف، والتناقض بين القول والفعل، وعدم إدراك قيمة العمل كفعل إنساني، وهذه هي الصفات السلبية التي تعوق التقدم والتي ينبغي أن نفك ارتباطنا بها.
إذن المطلوب اليوم، وبشكل ملح، هو إقامة دولة وطنية مركزية قوية، تفرض سيادتها على الكيان السياسي، وتلملم الشتات وتجبر التهشم القائم في الجسد اليمني، وليس المطلوب هو فصل اليمن إلى إقليمين أو إلى أقاليم متعددة وفقاً للرؤية الفيدرالية. المطلوب هو الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. ومنح صلاحيات واسعة للأقاليم لكي تدير شؤونها الخدمية بمرونة وسرعة وديناميكية ، في إطار الكل اليمني المشترك، وتجاوز الهوايات الصبيانية الضارة ، والابتعاد عن الهاويات المخيفة التي تجعلنا نقف على مشارفها فرحين، ثم تفضي بنا، ونحن لاهون، إلى الموت، وتعزيز الهوية الوطنية اليمنية الجامعة، من خلال تعزيز عملية الترابط والتواصل بين المناطق اليمنية عبر تطوير البنية التحتية والفوقية ، من خلال تطوير طرق المواصلات وتسهيل التواصل الاجتماعي والاقتصادي وتعميق الاندماج الثقافي والفكري والنفسي وتطوير البنية القانونية والتعليمية والإعلامية والثقافية، القائمة على العقلانية وقيم الحداثة، التي من شأنها أن تعمق الاندماج الثقافي والفكري والنفسي، وتذيب النتوءات الجهوية والطائفية ، التي تكونت عبر العقود الطويلة من العزلة بين المناطق وهيمنة الرؤى الاستعمارية والثقافة الإقطاعية، القروسطية المتخلفة، وبالتالي تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، التي تتيح لنا رؤية مشتركة، لكيفية بناء وطنا المثخن بالجراح، المثقل بالتخلف، بعيداً عن التطلعات الصبيانية والأوهام المريضة.
ليس لنا في هذا العالم ظهر أو أهل، نحن فقراء وحيدون، أيها السادة ، نحن نقع في مهب الريح، أو بالأحرى نحن «شبابة في شفاه الريح تنتحب»، كما قال شاعرنا العظيم عبد الله البردوني. ولن ينقذنا من مصيرنا القائم والقادم والقاتم سوى أن نتحاور لكي نتجاوز تخلفنا، وأن نكون معاً، وأن نسير معاً، وأن نتقدم معاً في هذا العصر المضطرب ، وأن نعيش معاً في إطار كيان سياسي ديمقراطي حديث يضمن حقوقاً متساوية لجميع مواطنيه، رجاله ونسائه، ويحقق لهم الحرية والكرامة والتقدم. وحينها فقط سيهتم بنا العالم، المتحضر والمتخلف معاً، وسينظر إلينا بقدر من الاحترام الواجب الذي نستحقه، ولكن علينا قبل ذلك أن نحترم أنفسنا ونفك الارتباط بتخلفنا.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.