محاربة الجريمة، ومنع انتشارها داخل المجتمع، غاية من غايات العقوبة، وُجدت لتصد عن المجتمع حدة الصراعات والنزاعات وتقف حائلاً بين أطماع الإنسان وما يشتهيه من الأهواء قال تعالى: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، اقتضى علم الله المبين في هذه الآية أن يحفظ للناس حياتهم ويصون أعراضهم ودماءهم وممتلكاتهم بقواعد وأحكام حتى صارت النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، فالقتل عقوبته القصاص والزنا عقوبته الجلد أو الرجم والسرقة عقوبتها قطع اليد ... الخ هنا أدرك الناس أن من أتى فعلاً من تلكم الأفعال عوقب بما ترتب عليه من جزاء فأحجم الجاني عن إتيان الجرم مرة أخرى لما لاقاه من الإيلام وتمنع الناس الآخرون عن مقارفة الجريمة على إثر ما شاهدوه بحق الجاني وهذه غاية العقوبة التي أرادها الشرع، ولن تتحقق إلا إذا استندت العقوبة لخصائص وضوابط منها على سبيل المثال أن تكون مقدرة من جهة قضائية كفيلة بتقدير ظروف الجاني وسلوكه، وأن تصدر من قاضٍ خبير مختص وشجاع، وأن تستند إلى قواعد محاكمة عادلة، والأهم من ذلك كله أن تنفذ على مرأى ومسمع كثير من الناس (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) وغاية هذا القصد حتى يرتدع الناس عن مفارقة الجريمة ومن أجل المحافظة على حياتهم حتى لا تدمر بانتشار الرذائل .. بغير هذه الضوابط أعتقد – وتلك قناعتي – (أن العقوبة تفسد أكثر مما تصلح ولا تكون مقبولة وعندها يصبح لا حاجة لنا بقاضٍ لا يدرك غاية العقوبة ولا معنى للعقوبة ما لم تحقق مقاصد الشرع الحنيف. قبل سنوات قليلة ماضية كانت عقوبة القصاص في تعز تنفذ في منطقة صينة من مديرية القاهرة، حيث أتذكر وأنا في مرحلة الطفولة ذهبت بصحبة أحد أقاربي إلى المكان لمشاهدة تنفيذ حكم الإعدام بحق أحد القتلة حينها اندهشت من الموقف المرعب ولا أخفيكم سراً أنه تولد لدي شعور نفسي بالخوف من تلكم السائلة (مكان التنفيذ) وإلى اليوم لم أطق حتى مشاهدته. أعود فأقول: إن للعقوبة أثراً بالغاً في حياة المجتمعات (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فلو أدرك كل شخص بعين اليقين أنه سيقتل إن قتل، لما أقدم على القتل ومثله السارق والزاني ... الخ قد يقول قائل إن واقع اليوم غير الأمس ولا يمكن خصوصاً في ظل هذه الظروف أن تنفذ أحكام الإعدام بإحدى الساحات؟! صحيح ذلك لكن لماذا لا تشرع الدولة بمسح وتسوير أحد المرتفعات وتزويدها بالمدرجات على غرار الملاعب الرياضية وتحيطها بالحماية اللازمة لتكون مكاناً آمناً تنفذ فيه الأحكام، وليس المكان وحده المهم في الموضوع فعندما لا تتناسب العقوبة مع ذنب الفاعل وتاريخه وسلوكه كما لو سيطر عطف القاضي على عقيدته أو تحاصرت إرادته بين وجاهتين أو شهوتين أو خوفين تجده يسعى إلى إرضاء طرفي النزاع بحكم لا هو بالمقبول الصحيح ولا هو بالباطل المنعدم. كالحبس مع وقف التنفيذ أو الإدانة بشيء يسير من الغرامة، هنا يصبح ضعف القاضي ومعه العقوبة حافزاً أمام الناس لارتكاب الكثير من الجرائم والمحرمات وكل ذلك يؤدي إلى توسيع دائرة الإجرام داخل المجتمع، كون المتهم لم يتألم والمجني عليه لم يُنصف والآخرين لم يرتدعوا وتبقى العقوبة مجردة من غايتها.