تأثرت أوروبا بالموسيقى الأندلسية، كما تأثرت بالنظرات الفكرية والفنية العربية أيضاً. لكن أوروبا مازجت النفس الأندلسي بثقافتها الخاصة القائمة في أساس التجسيم والاختزال، المقرون بالبرهان الرياضي الجبري، وهذه الثقافة بحاجة أيضاً إلى توضيح أشمل نتجاوزه هنا حتى نُنهي هنا البُعد الوصفي العام في العلاقة بين الموشح والعمل السيمفوني، والذي يتلخَّص في الانتقال من متوالية الساعات الطويلة لليل والنهار، إلى الاختزال الذي يقلل من زمن الحركات الموسيقية التعبيرية، وصولاً إلى الحركات الأربع الكبرى الموصولة بالفصول الأربعة للعام، كما لو أن هذه الفصول تعبير مكثف عن تداعيات الأيام وتقلباتها.. لكنها ليست تداعيات محايثة للزمن الطبيعي فحسب، بل للزمن النفسي الإنساني المجبول بالأفراح والأتراح .. بالسعادة والشقاء.. بالطمأنينة النسبية والحيرة الدائمة.. إلخ.. لعل سيمفونية “فيفالدي” بعنوان “الفصول الأربعة” خير مثال على ما نذهب إليه، وبالمقابل سنجد البُعد الدرامي الأكثر صعقاً عند “بيتهوفن”، بمقابل الغنائية الملحونة بالأوتار عند “موتسارت” ، والاعتداد الكبير بالمعادل الفردي في العزف عند “شوبرت”. ومقطع القول إن البناء التركيبي للموسيقى الكلاسيكية مُتعدد ومتنوع؛ لكن القاسم المشترك الأعلى فيها يتمثَّل في كونها صادرة عن ثقافة عالمة بالموسيقى، وأداء مقرون بالتخصص في العزف والإنشاد، وتطوافات بانورامية تكتسب زخمها الكبير من تضافر مئات آلات العزف التي تماهي بين الهارموني والكونترابنكت... التناغم والتضاد؛ فتُصبح الجمالية التعبيرية قائمة على النسقين معاً. ومن أُصول التلقي للموسيقى الكلاسيكية تنمية التذوق السماعي، دونما اعتماد على المعاني الصادرة من الكلام “اللغة”، كما يحدث في الغناء الشائع .. وتبعاً لذلك تنفلت الموسيقى الكلاسيكية من عقال المحلِّية، كونها لا تعتمد على “الاتصال اللفظي”، بوصفه ركناً ركيناً في تكاملية الأداء بين اللحن والكلام، بل تعتمد على “الاتصال غير اللفظي” المستند حصراً على الأصوات المجردة، سواء صدرت من الآلات، أو من حناجر البشر. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك