ذهب “والدي” في رحلته التي تمناها وكان مستعداً لها تماماً ومهيأً، ففي الوقت الذي غادر المنزل شعرت بشيء غريب ووحشة تكاد تسحقني بلا رحمة ، لم تتحملني أقدامي ، إنه يستعجل السفر رفقة قافلة الخالدين ، كان بشوشاً فوق فراش المرض يُقبل بحرارة كل من يأتيه وكأنه يودّعه الوداع الأخير ، كنت أشاهده كملاك بأنوار سماوية يبارك القادمين بلهفة وشوق وحنين وأتألم لأنه الفراق. آه آه .. كم اشتاق بجنون إلى الساعة الثانية فجراً ، فهو الموعد الذي كنت استمع بلذة لسيمفونية “أقدام” اعز أصدقائي وكل حياتي .. وفي ذات التوقيت يومياً تعودت النهوض على وقع له صدى في “خافقي وكبودي” الطريق إلى الجنة ويعرف الجميع معنى القيام في تلك الساعة ، ذلك الصديق كان يتمنى وأنا في سن مبكرة قبراً وكفن دون أن أبالغ لأنه يشعر باقترابه من محطة الرحيل إلى فردوس الله ، كان قريباً منه في كل لحظة حتى أنه كتب وصيته لوالدتي يوم جئت إلى هذه الدنيا وقال : يا أم مطر إن مزّقني الفاشست غداَ أو بعد غد لا تبتئسي كوني كقدر كوني زمزمة لرعودي كوني عربدة لرياحي كوني سيلاً شلالاً للمطر القادم يا أم مطر **** يا أم مطر إني راحل لكن رحيلي سيهزّ شيوخ القيعان وشبان الساحل ويمزق هذا الليل وحراس الليل يخلي عاليهم سافل إني راحل ذهب “والدي” في رحلته التي تمناها وكان مستعداً لها تماماً ومهيأً ، ففي الوقت الذي غادرنا المنزل في ال19 من الشهر الماضي شعرت بشيء غريب ووحشة تكاد تسحقني بلا رحمة ، لم تتحملني أقدامي ، أنه يستعجل السفر رفقة قافلة الخالدين ، كان بشوشاً فوق فراش المرض يُقبّل بحرارة كل من يأتيه وكأنه يودعه الوداع الأخير ، كنت أشاهده كملاك بأنوار سماوية يبارك القادمين بلهفة وشوق وحنين وأتالم لأنه الفراق. “والدي” العزيز .. من الصعب أن اختصر ذلك العمر الذي أكرمتني به منذ قدومي أو بالعيش في رحابك كصديق ابدي يتحين في كل ثانية أن تناديه باسمه “مطر” ، اشتاق للترحال معك إلى عدن ، صنعاء أو الحديدة ، دمشق ، بيروت ، بغداد ، عمان ويدك تضمني بحب ، تبتاع لي الكتب في ربيعي الرابع وتمنحني فرصة لقاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ليكون قدوتي وتجعلني رفيقاً لجلجامش الباحث عن مجد الخلود وتهديني مكتبة بها كل الأساطير والقصص وعوالم الأدب والشعر والروائع قبل دخولي مدرسة “النجاح” الابتدائية وأنا أيضاً في الرابعة ، عشقت عنترة وأنا استمع إليك تردد معلقته بيتاً بيتاً إلى أن وصلت إلى أمنية ابن شداد :”ووددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسّم” وتخلد معي هذا البيت واغرمت بالشعر ولم أعد أرى في حياتي كلها سواك شاعراً ، جعلني “الفتيح” معلماً في لحظات بمحبة خالصة وبمسئولية استثنائية، يتتبع أدائي وينتظرني أن أفشل ليس ليؤنبني بل ليعطيني بعضاً من روحه بصورة نصيحة ترافقها هدية. في الصباح كنت رفيقه وظله الذي لا يتركه حتى تفرقنا سُنة النوم ، كان يفتخر بي وكنت وسأظل كذلك ، يمنحني أسراره ، ويطلب مني النصح ، يستغرب الكثيرون ذلك ، كانوا يحسدونني على امتلاكي “والداً” محباً ، حنوناً ، مخلصاً وبشوشاً. أتذكر هروبي من عالمي الصغير عندما يلتقي برفاقه منهم العالمي الراحل هاشم علي، ملك الريشة وسيد الألوان ، و “قاضي” الحرف والشعر العزيز أحمد محمد المجاهد .. كانت كل لحظة أتنفسها ارتشف معها بعمق ونشوة درساً جديداً واعرف يوماً بعد آخر من يستحق صداقة والدي ومن لا يستحق وأصارحه .. أحب بشغف مد يد العون لجيل الشباب ، فهو يرى نفسه فيهم، في تألقهم ونجاحهم، فتابعهم واحتضنهم وبادلوه الوفاء. في حياته كلها كان ينظر ل«آل أنعم» أنهم استثناء الاستثناء الجميل الممزوج بالحب والخير والعطاء والإيثار، إنهم وطن حقيقي لمن لا وطن له ، منذ فترة شبابه في عدن حيث رافق المرحوم هائل سعيد أنعم ، كان يمتلك مخزناً يرتاده تجار عديدون لتخزين بضائعهم وكانت تلك البداية ، وامتدت العلاقة إلى بقية السلسلة المباركة من تلك الأسرة الكريمة حتى أن من زاره قبل الوداع الصديق العزيز الذي أحبّه وقدّس كل ثانية، كانا متواجدين معاً الحاج علي محمد سعيد انعم الذي أتذكره وهو يهمس قائلاً : رمضان جاء يا محمد فمع من أتسامر .. ومن قبله بلحظات زاره الأستاذ شوقي أحمد هائل سعيد أنعم دون أن أنسى الزيارات المتكررة للحاج عبدالجبار هائل سعيد أنعم وتلك الابتسامة المصحوبة بقبلة كانت تُنسي “الفتيح” ألمه وما يعيش تحت حاجز الصمت. في حياة الكبار دائماً ما تتواجد العراقيل بل وتتوالد ولا ترحمهم ، ربما يكون للمواقف الثابتة دور في ذلك وعدم الرضوخ والسكون لرغبات الباحثين عن إخراس الألسنة المتحدثة بالحق، الفاضحة للزيف والمعاناة ، لكنه كان يطوّع كل ذلك ويتناسى كل أحزانه وهمومه التي تهز الجبال حتى وصل الأمر لإلحاق الأذى براتبه الحقير الذي لا يتوازى مع درجته الوظيفية أومؤهله العالي ، وبابتسامة ساحرة تعطينا على طبق من ذهب الأمل بالآتي وإن كان مجهولاً ، مناضلاً حقيقياً في زمن “الرجال” والثورات قولاً وفعلاً في “سبتمبر” و«أكتوبر» ومدافعا عن الحلم الكبير أيضاً “مايو” ، اختزل أحلامه في كلماته وكذلك كان ينظر للمستقبل بعيون المترقب والمتنبىء بكل التفاصيل وقلة من يستطيعون قراءة القادم. جاء في الزمن “الخطأ” كلمة تردّدت على مسامعي كثيراً وبالذات بعد “الذهاب” الحزين ل«القمري المغرد»، لا أخفي الجميع سراً إن هاتفه طوال تواجده في المستشفى بين العناية المركزة وقسم الرقود لم يرن سوى خمس مرات فقط في 28 يوماً وأتت الاتصالات من الإجلاء : الدكتور سلطان الصريمي “القاهرة” ، الأستاذ علي نعمان“صنعاء” ، الأستاذ عبدالعزيز الاغبري “عدن” ، الأستاذ عبدالناصر الاكحلي “تعز” ، الزميل طارق العديني “تعز” فقط لا غيرولكم التعليق !! والدي وصديقي ، في حجرتك التي حلمت أن تكون قصراً لك بعد خروجك من المشفى لا يزال صغيري “محمد” وحفيدك الذي انتظرت يلتمس كل شبر فيها ، “يحبو” كضائع بحثاً عنك ، يصيح ولا يمتلك سوى البكاء والالتفات بشغف إلى مكانك. والدي ، أيها الراحل في ركاب الخالدين إلى من يُحسن لضيفه ، نم قرير العين واعلم أن لا كرامة لنبي في قومه ، وقبل الختام سأقف عاجزاً وأنا أحاول البحث عن كلمات الشكر والثناء لآل انعم الطيبين فرداً فرداً على نبل مواقفهم وكرمهم مع “الفتيح” الذي أحبّوه بصدق في حياته وحتى هذه اللحظة ، ولم أكن مبالغاً عدما طلبت من الوالد والأب الفاضل أطال الله في عمره علي محمد سعيد أن يكون إسم والدي محمد عبدالباري “انعم” الفتيح .. كل الحب والتقدير لكم يا أنبل الناس وخيرهم وكل الشكر لمن حضر واتصل، كلٌّ باسمه وصفته ولا عزاء لدولة تخنق تاريخها وتسحق كل رموز جمالها. رابط المقال على الفيس بوك