وهو على سرير المرض، همست حفيدته في أُذنه قائلة: إن الرئيس الأمريكي أوباما سيزور بريتوريا، فما كان من المناضل نيلسون مانديلا إلاّ أن فتح عينيه المغمضتين وظهرت على شفتيه ابتسامة عريضة انعكست على وجه حفيدته، سعيداً بخلاصة نضاله للتحرر من نظام الفصل العنصري في بلاده. هذا المناضل الإفريقي الجسور لم تثنه سلطات القمع العنصري في جنوب إفريقيا عن مواصلة نضاله السلمي على الرغم من دفعه ثمناً لذلك ردحاً طويلاً من عمره خلف الزنازين ليخرج - بعد نجاح شعب جنوب إفريقيا في إزاحة هذا النظام العنصري - من تلك الزنازين وليساهم في التأسيس لنظام جديد يقوم على مبادئ المساواة والعدل والحرية بل واختير رئيساً للنظام الجديد. لم يفعل الرئيس مانديلا كما فعل غيره من قادة وزعماء الدول الإفريقية والعربية ودول العالم الثالث في التشبث بتلابيب السلطة ممن وهبوا أنفسهم صكوكاً مؤبدة، بل على العكس قدم الزعيم مانديلا أنمودجاً حضارياً يُحتذى في تطوير التداول السلمي والسلس للسلطة وعلى قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد. لقد عاش الزعيم مانديلا بسيطاً في حياته، متواضعاً في سلوكه، وقريباً إلى شعبه، فاستحق بذلك كل المحبة والوفاء والتعظيم وأصبح قائداً وحكيماً وملهماً لعديد من حركات التحرر الوطني في ربوع البسيطة، بل وأضحت تجربة دولة جنوب إفريقيا بعد الإطاحة بنظام الفصل العنصري رائدة في تعميم التحرر من الخنوع لأنظمة التمييز والفصل العنصري والاستبداد والديكتاتورية والإقصاء، حيث أضحت هذه التجربة عنواناً بارزاً لحقبة جديدة تتشكل فيها ملامح عالم متغير، تضمحل فيه إمبراطوريات الفساد وأنظمة الزعيم الأوحد! وعلى الرغم من القيم الحضارية التي أرساها المناضل مانديلا، فإن ثمة من قادة العالم الثالث من لا يزال مسكوناً بسلطة الفرد وهيمنة القوة والتفرد بالقرار دون استيعاب لحجم التحول في مجرى حياة الشعوب والأمم والعالم أجمع.. شكراً مانديلا الذي أضاف درساً بليغاً في النضال والتضحية ضد شتى صنوف القهر والإذلال العنصري، حيث لم يقتصر نضاله في مقاومة تلك الممارسات، بل مثل أيضاً درساً في الزهد عن السلطة، مفضلاً ركناً قصياً بين أبناء وطنه على البقاء في عرش الحكم بمفرده، كما يفضل ذلك حكامنا العرب الذين يتناسلون السلطة أباً عن جد! رابط المقال على الفيس بوك