هذا العنوان الذي سيبدو غريباً على القراء هو اسم أحد أواخر عمالقة الفلسفة الأوروبية وهو الفيلسوف الروماني الراحل منذ ثلاثة عقود ، وما ذكرني بالرجل ، بل ما أراه مهماً لعموم القراء هو إطلاعي على آخر إصداراته، وقد كنت ترجمتُ بعض نظرياته قبل سنين ، وقد لفت نظري في نصوصه درجة التطير المقرون بالتعميم اليقيني الذي يصل إلى مصاف الميتا فيزيقا الإيمانية، بالرغم من كون الفيلسوف صادراً عن الجبرية البرهانية الأوروبية. لكن ما أدهشني حقاً حديثه التلفزيوني وهو على فراش موته وقد بلغ من العمر عتيا، مشارفاً على المائة عام .. كان جسده ضئيلاً حد التلاشي .. وكان يبدو للعيان مجرد خرقة من جلد تكسوها عظاماً رخوة .. لكن رأسه بدا مفارقاً لذلك الجسد كما لو أنه رأس قزم ضامر البنيان، فيما كانت عيناه الناريتان تتقدان بالشرر وهو يتحدث بلسان فصيح ونبرة فتية، مهاجماً لينين، واصفا إياه بأنه مجرد وغد اعتيادي استعان بالفلسفة ليحقق مآرب سلطانية .. ثم تواترت هجماته الصاعقة لينال من عديد القامات الفلسفية وكأنه يناظرهم متحدياً، وهم واقفون أمامه ! .. تلك اللحظة التلفزيونية الفارقة أظهرت بيتري ضمن ثنائية غرائبية حقاً ، فجسده الضامر المتهالك على فراش رحيله الأخير كان مفارقا تماماً لاتقاد ذهنه وحضوره الناصع في ذاكرة القراءات الفكرية المعمقة، بالترافق مع صراحة سجالية لا يقوى عليها إلا من كان له حظ وافر في محايثة الكبار . كان بيتري يتعمّد تعرية الفلاسفة من أقنعتهم الغليظة، المسيجة بالحقائق والأوهام معاً، وكان كمن يريد قول شيء نادر في لحظات عابرة. هذا ما دفعني للكتابة عنه ليقيني بأن موت الإنسان الكبير يتم بطريقة متدرجة، وأن من كان ديدنه وقدره الإقامة في عالم الملكوت، لا يسعه أن يموت ذهنيا قبل موته في عالم الشهود. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك