في بلادنا تقام معارض سنوية للكتاب, لكنها للأسف معارض أشبه بطعام الوليمة, يُدعى إليها دور نشر معينة في كل عام ليس لديها غير عناوين مكرورة بعدد أصابع اليدين والرجلين, ويغيب عنها دور نشر فاعلة أحق بالحضور إليها. لا أستطيع أن أقول: إنها معارض يطغى عليها الكتاب الديني كما يرى البعض؛ لأنها لو كانت كذلك لوقفنا - على الأقل - على ثراء فكري متنوع يقدم الخطاب الإسلامي الحيوي الذي يتبناه كثير من المفكرين العرب وتزخر بإنتاجاتهم معارض الكتب في عواصم عربية أخرى كعمان الأردن وبيضاء المغرب وبيروت ودمشق الشام, فهذا الجانب في معارضنا يخفت أمام هيمنة ثلاثة أو أربعة عناوين محظوظة من كتب التفسير – وليس كل التفاسير بمختلف مدارس التفسير – ومثلها من كتب الوعظ أو كتب التنمية البشرية أو الروايات المشهورة أو قصص الأطفال, أو غيرها من العناوين مهدورة الحقوق الفكرية التي تمتلئ بها مستودعات المعارض السنوية في كل عام ويتم تسويق عشرات الآلاف من النسخ منها, ناهيك عن أن كثيرًا من وجوه النشر المألوفة اعتادت ألا تقدم للزائرين الجديد, وكل ما تصنعه هو أن تودع عناوينها المعدودة بكمياتها المهولة في مخازن يمنية تستأجرها بصفة دائمة وتعاود فتحها كلما حان موعد معرض الكتاب في صنعاء أو عدن أو تعز. لهذا كله ينبغي ألا يستغرب أحد قولي: إن معارضنا للكتاب ليس فيها كتب, فهذا أمر صحيح, لأنه لا وجود لدور النشر التي تعرض العناوين في مختلف المجالات الثقافية, لاسيما الجديد السنوي منها.. أين هو الكتاب الفكري؟ أين هو الكتاب النقدي؟ أين هو الكتاب الفلسفي؟ أين هو الكتاب الأكاديمي والدراسات العلمية؟ أين هو الكتاب الذي يعيد قراءة الخطاب الثقافي العام ويناقش كثيرًا من المسلمات ليزلزل كبرياء المثقف النمطي المعاصر المسجون حاليًا خلف جدار من تصورات الحداثة التقليدية التي أعاقته عن صناعة النهوض؟ صحيح أن هناك حضورًا لمكتبة يمنية أو اثنتين وكيلتين لبعض دور النشر العربية, وهي مكتبات تعرض عناوين لبعض مشاهير المؤلفين, ولكن تظل هذه المكتبات تحمل إلى معارض الكتاب العناوين نفسها في كل مرة, وكأن أصحاب تلك العناوين قد ماتوا ولم يعودوا يكتبون أو ليس هناك غيرهم من يكتب .. فعلى سبيل المثال أين هو الجديد السنوي لمنشورات المركز الثقافي العربي؟ أين هو الجديد السنوي لمنشورات مركز الدراسات العربية؟ أين هو الجديد السنوي لمركز دراسات الوحدة العربية؟ أين هو الجديد السنوي للمنظمة العربية للترجمة؟ لا جديد .. وإذا سألت أحد البائعين عن السبب, فسيرد عليك بأن المشكلة تكمن إما في غلاء أسعار تلك الكتب أو في ضآلة الإقبال عليها من مرتادي المعارض, وهذا الجواب لو تأملت فيه ستجده صحيحًا, فمن حيث الأسعار تجد دور النشر الكبرى تحرص على بيع الكتاب بالدولار حتى وإن كان قد سبق على نشره خمسة أو ستة أعوام, فهم يتمسكون بالأسعار التي يريدونها وبقاء الكتاب في الرف لن يضرهم, لأنه مجموعة من الأوراق وليس كيلو من الطماطم سيفسد ويتعفن إذا مر عليه يومان وهو في الصندوق!! أما من حيث ضآلة الإقبال فالأمر يعود إلى جمود المثقف اليمني نفسه ووقوفه عند مرحلة ترديد الموقف أو الفكرة وليس إنتاج الموقف أو الفكرة, وأيضًا تعامله مع الثقافة من منظور أيديولوجي ضيق, كما هو حال مثقفين قوميين ويساريين وعلمانيين وليبراليين وإسلاميين تجديديين في دول عربية رائدة أرادوا فهم الثقافة بهذا المعنى دون غيره, فحجروا واسعًا وأوصلونا إلى حداثة لا تريد أن تتجدد أو تقبل بالآخر, وبالتالي ظلت حداثة على الأوراق فقط, فالمثقف عند القومي واليساري هو من يتشرب الفكر الماركسي مقالةً ونقدًا ورواية ويكفر بغيره, والمثقف عند العلماني هو من يتشرب الفكر الليبرالي والعلماني ويكفر بغيره, والمثقف عند الإسلامي التجديدي هو فقط من يتشرب كتابات محمد عابد الجابري وعبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن وعلي حرب ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي والصادق النيهوم ومالك بن نبي... إلخ, أما أنا فسأقول: إن المثقف الحقيقي هو من يقف على هذه الاتجاهات الفكرية كلها لينتج رؤية بمنظار موضوعي مستقل, كما فعل محمد عابد الجابري وعلي الوردي والمسيري وبرهان غليون وعبد الله الغذامي وعزمي بشارة وكما يفعل في اليمن عبد العزيز العسالي والأكاديمي فؤاد الصلاحي. المهم أن معارض الكتاب في بلادنا تظهر بهذه الصورة الهزيلة؛ لأن المثقف نفسه لا يستفز دور النشر لعرض الجديد وعرض ما هو فكري وعلمي ونقدي وأكاديمي, وتخفيف الاهتمام بما يتعلق بأسرار ليلة الدخلة وتعلم الطبخ وكيف تتقن لغة أجنبية في يوم ونصف وكيف تصبح مليونيرًا في غضون ساعات, وغير ذلك من عناوين الإغواء والترف والخواء الفكري. وأنا أؤيد ما كتبه الدكتور فؤاد الصلاحي على صفحته في الفيسبوك ونشرته (الجمهورية) في عدد الجمعة الفائت, فصحيح أن اليساريين في وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب لم يقدموا شيئًا لتغيير الصورة النمطية الهزيلة لمعارض الكتاب, فالثقافة ليست فقط أن تعرض رواية لجبرائيل ماركيز أو باول كويلو أو أحلام مستغنماتي أو غيرهم من المشاهير, إن الثقافة ثراء فكري وتنوع معرفي وتلاقح أفكار وتقابل رؤى. كما أنني أشاركه الإحجام هذه المرة عن زيارة معرض صنعاء للكتاب, لاسيما أنني لم أتعافَ بعد من خيبة الأمل التي أصبت بها وأنا أتجول في معرض تعز (الدولي) للكتاب قبل بضعة أشهر, فقد خلا المعرض من العناوين الفكرية والنقدية والحداثية والفلسفية باستثناء عناوين مكتبة أبي ذر الغفاري التي يملكها السياسي سلطان العتواني, على ما في هذه المكتبة من تواضع في عرض الجديد وكثرة وقوفها عند منشورات 2007 و2008م, ومع ذلك فلم أملك آنذاك إلا أن أقول: رعاك الله يا سلطان, ورعاك يا فيصل سعيد فارع حين حفظت لتعز ماء وجهها بترك الخلافات المالية مع هذه المكتبة العتوانية وسمحت لها بالتواجد في المعرض كشجرة وارفة في أرض قاحلة. فمتى – إذن – سنتحرر من الشكل وندخل في العمق والجوهر؟ .. متى سنجد معارض دولية للكتاب بحق وحقيقة؟ [email protected] رابط المقال على الفيس بوك