التصرف الإنساني نتاج تصور مسبق وتجسيد له في الواقع , حتى ردود الفعل المفاجئة واللاإرادية , يقول علماء النفس انها تعكس تصوراً في العقل الباطن وتجسد خبراته المكتسبة , ولذا تكون حركة الفعل السياسي التي اعقبت ما يسمى ب “الربيع العربي” تجسيداً لتصور مأزوم أو تجسيداً لأزمة التصور . أولى أزمات التصور في السلوك السياسي بعد “الربيع العربي” هي غياب مشروع التغيير وانعدام الرؤية الواضحة لحركته العملية في الواقع , على المستويين : تفكيك بنية نظام الاستبداد والفساد وبناء البديل الديمقراطي الرشيد . في هذه الازمة تجلت اوهام التغيير في مظهرين هما: الأول : وهم الشخصنة الذي هيمن على التصور السياسي للتغيير أثناء وبعد حركة الفعل الانتفاضي للجماهير في اقطار ما يسمى بالربيع العربي , حيث اقتصر مشروع التغيير على إزاحة رأس هرم السلطة من جهة , ومن جهة أخرى استبداله بمسمى حزبي تأتي به أغلبية أصوات الناخبين . الثاني : وهم الهيمنة الذي روجه الإعلام بقصد وجهل عن شعبية التيار الديني وجماعاته , وهو وهم وإن كان حقيقة قائمة في الواقع , فإنها لا تجسد الواقع الذي استدعى التغيير لبنية النظام السياسي ووظائفه , لا مجرد استبدال المسميات والاشخاص . فالواقع السياسي استدعى التغيير لإعادة بناء نظام عام وسلطة حكم تتسع للاختلاف وتتسع تعدديته السياسية والمجتمعية , وهو ما فرض عملية انتقالية مزمًنة , تبدأ ببناء النظام ومؤسسات السلطة وتجعلها قابلة للتنافس ومتاحة للتداول , لكن ما حدث كان ابقاء للنظام وإعادة انتاجه بذات الطبيعة المنغلقة على سلطوية الصراع وفساد أدواته , بحيث تمدد الانقسام السياسي خارج الحدود بثنائيته بين السلطة والمعارضة قبل الربيع , ليصبح بعده بين شركاء الثورة وفي مجتمعها بثنائية الاخونة والعلمنة . وهكذا تأزم الربيع العربي , وارتد الى مأساة تتلظى بها شعوب الانتفاضة المجيدة , وتكتوي بحرائقها المشتعلة حروباً وتبديداً للجهد والمقدرات في أقطار تحدق بها أخطار الفقر والتدهور المعيشي والانهيارات الاقتصادية , وما كان الوضع ليصل الى هذا لو أن النخب السياسية والثقافية أحسنت التصور وقدمته على تصرفاتها المأزومة بالوهم والعشوائية أو حاولت تأسيس تصرفها على تصور سليم , ومع ذلك لا تزال الفرصة سانحة لتدارك الوضع الراهن وإعادة رؤيته من منظور واقعي يبدأ بحسن التصور ليتحرر من سوء التصرف وأزماته المتفاقمة . [email protected]