“كان هذا حصاد ما زرعته اليمن في هذا اليوم” عبارة اختار مذيع إحدى القنوات الفضائية المحلية أن يقولها لأول مرة, وهو مبتسم يلملم شتات أوراقه بعد أن فرغ من قراءة “نشرة الأخبار المسائية” التي كانت كعادتها حبلى بكثير من أخبار الاحتجاجات والمظلوميات والاضطرابات والحوادث الأمنية المتنوعة بين خبر اختطاف وآخر قتل وثالث اعتداء تخريبي على مصلحة عامة. أعجبتني هذه العبارة الختامية وأنا ألمح فيها إبداعًا في مصالحة المذيع بين (حدث غير بريء يقوم به رجال الشر) وابتسامته البريئة لتلطيف الجو لدى المشاهدين, والتقليل من خطورة ارتفاع ضغط الدم. لكن قلت في نفسي حينها: إنه جبروت اللغة المجازية المصحوبة بابتسامة جرى من خلالها تمرير هذا الجبروت.. فهناك فرق بين الطبيعة والثقافة, واستحضار هذا الفرق يذكرنا بأن (اليمن الأرض) بريئة مما يحدث, ولا يمكن أن تزرع كل هذه المآسي لتظل تحصد أحزانها كل اليوم.. اليمن لم تعرف طبيعتها غير زراعة المحاصيل؛ لأنها بلد حضارة واستقرار من قديم الزمان.. وهذا يعني أن الزارع الحقيقي في نشرة الحصاد الإخبارية الإنسان, أي (الثقافة) التي تحمله على زراعة الأشواك في طريق تنمية الحياة وتطويرها, “ومن يزرع الشوك لا يمكن أن يحصد العنب”. إن هناك الكثير مما تجرحه أيدينا وألسنتنا بالنهار, وحين يأتي المساء – والحزن يولد في المساء؛ لأنه حزن ضرير, كما يقول الشاعر صلاح عبد الصبور –يأتي لينثر جعبته بين أيدي اليمنيين, قائلاً: هذه غلالكم, هذا حصاد ما تزرعون في النهار .. دماء تسيل, وبكاء وعويل, وحروب مشتعلة, ومقابر ممتلئة, وأعداء يتربصون, ومسؤولون يتملصون ويتململون ويتخاذلون ويتواكلون.. وساسة يتناطحون ويتباغضون ويتشاحنون. وهذا هو نتاج الزارع البديل الذي تغلب على زارع قديم ظل الصغار يرددون على لسانه في كتاب القراءة القديم لأحد الصفوف الأساسية: أنا الزارع في يمني قوي الجسم والعضل تراني عاملاً دومًا بلا تعب ولا ملل والخطورة أن اللامبالاة والتبلد تنسج فينا خيوطها كل يوم.. فالحرب التي تهلك الحرث والنسل تتحول في أذهاننا إلى حدث طبيعي ليس فيه ما يدفعنا إلى الخوف أو التألم.. وقبل ذلك كان مقتل 80 جندياً بالسبعين في لحظة واحدة جريمة مرّت علينا مرور الكرام, وجرائم الاغتيالات المتكررة لعشرات الشخصيات الأمنية والعسكرية والمدنية تمر علينا مرور الكرام, وجريمة قتل 52 شخصاً في الهجوم على مجمع الدفاع بصنعاء ستمر مرور الكرام أيضاً, ومثلها كثير من الجرائم المهولة .. والمشكلة أننا لا نريد أن نحس بما يحدث إلا إذا كان الحادث يستهدف أحد الأقرباء أو الأصدقاء, كما أن الكوابيس هجرت منامنا؛ لأن كل الفظائع والفجائع أحداث نعيش حقيقتها كل يوم, ولم يعد هناك أية بشاعة تفزعنا في ظل مشاهدتنا اليومية لجرائم القتل الجسيمة والمناظر التي كان الإعلام يمتنع عن نشرها قبل عدة سنوات مراعاةً لمشاعر المشاهدين. الحصاد الإخباري إذن مصطلح يدلف في المساء ليشيعنا واحدًا واحدًا إلى الدار الآخرة.. يأتي لاطلاعنا على ما تحصد قوى الشر من أرواح بريئة؛ لأننا لم نزرع غير التقصير والإهمال والمناكفات والعناد فيما بيننا, في أرض بريئة من كل أعمالنا غير السوية.. فهلا أدركنا ذلك؟!. [email protected]