الأطراف التي تطالب الدولة بالقيام بواجبها ووقف العدوان عليها - هي نفسها من عملت في السابق على إضعاف وتغييب دور الدولة الإيجابي, لصالح بقائها وتوسع نفوذها الشخصي, والأطراف التي كانت تطالب الدولة في وقت سابق بالقيام بدورها ورفع الظلم وأنهاء الاعتداءات الواقعة عليها , هي نفسها اليوم من تعمل على تغييب الدولة وإضعاف حضورها وتدمير مؤسساتها , وربما هذه الأطراف هي نفسها غداً من ستطالب بضرورة وجود الدولة وتفعيل حضورها - لأنها لن تستمر في حالة القوة والهيمنة التي هي عليها اليوم , وهذه حقيقة كونية سارت عليها الحياة منذ أن خلق الله الأرض وحتى يومنا هذا وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . والتجارب التاريخية المتعاقبة تقول بهذا , وتؤكد حقيقة أن الأيام دول - فالأطراف المنتصرة اليوم في معاركها السياسية أو العسكرية لابد أن تهزم غداً من قبل خصومها الواقعين كضحايا لنشوة انتصاراتها, أو من قبل اطراف قد تتشكل لاحقاً كمراكز قوى جديدة تسعى للسيطرة والاستحواذ على صناعة القرار ومواقع إدارة الحكم في البلاد, وعلى نفس النمط القائم منذ عشرات السنين في منهجية الصراع القائم بين بني البشر حين تغيب المشاريع الكبيرة وتضعف الهوية الوطنية الجامعة وتحل محلها الهويات المتناقضة والمشاريع الصغيرة . إن الدماء التي تسفك والأرواح التي تزهق في حروب ومعارك وصراعات ما انزل الله بها من سلطان , ولا تهدف إلى بناء الأوطان وتطوير أنظمتها ومؤسساتها وخدماتها , ولا تهدف إلى الارتقاء بالإنسان وتنمية قدراته ومواهبه وحماية حقوقه وصون كرامته , اشك بأنها زكية أو أنها تحمل رائحة المسك, فكيف إذا كانت هذه الدماء والأرواح تسير على غير هداها , في سبيل مشاريع تدار من الخارج وتأتي في إطار صراع المصالح الأجنبية , أو في سبيل مصالح ومكاسب شخصية لأفراد يسعون إلى المجد والتسلط والاستحواذ على كل شيء في هذا البلد وبما في ذلك الإنسان وحريته وكرامته, فالشيخ يريد أن يظل شيخاً على رقاب العباد يسلب حقوقهم ويصادر ممتلكاتهم ويقيد حرياتهم مقابل الفتات أو البقاء على قيد الحياة , والسيد يريد أن يظل سيداً على رؤوس البشر يدوس عليهم كلما أراد أن يتحرك أو يستقيم , يأمر فيطاع وينادي فيجاب مقابل جنة الوهم وسراب الأجر والثواب , كلاهم لا يريد بناء الدولة الحديثة والمتقدمة وحضور أجهزتها ومؤسساتها وفاعلية دورها , وكلاهما لا يريد الاحتكام للنظام والقانون والانصياع للتشريعات المدنية المتطورة والمواكبة للمتغيرات العصرية . وهنا أتساءل ماذا لو فكر الطرفان المتصارعان وكل الأطراف الموجودة على المشهد السياسي اليمني - بعقلية المواطن العادي الذي يبحث عن الدولة المدنية الحديثة والقوية لينعم بظلها ويعيش بكنفها ويأكل من خيرها كسائر المواطنين يحتكم لقوانينها ويحترم مؤسساتها وأجهزتها ويصون ترابها ويضحي من أجل رفعتها وازدهارها , ماذا لو فكر الجميع بهذه الطريقة هل ثمة ما سيهدد وجودهم أو سيخيفهم؟ , أو ثمة ما سينتقص من حقوقهم كمواطنين متساوين ؟ إننا جميعاً في هذا البلد نريد أن نعيش فقط نريد أن نعيش كما يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم , نريد أن نعيش كبشر .