كلما شرعت أقلامنا في الكتابة؛ تتزاحم قضايا ومآسي الوطن كلها بحاجة لأن نوصل صوت وجعها إلى العالم، ونطلق العنان لتفاصيلها، وهي ونحن نعلم أن صراخ الموجوع لا يخفّف وجعه؛ ولكنه يخفّف عنه وزر الكبت والتهميش. من منّا فكّر لمرّة أن يكتب عن أولئك الجنود الذين يُقتلون يومياً؛ وتكتفي وسائل الإعلام كلها بقولها: «قُتل عدد من الجنود» من منّا فكّر ولو لمرّة واحدة أن يتلبّس دور وشعور أسر هؤلاء ال «عدد من الجنود» الذين يخلّفون وراءهم وجعاً بحجم وطن اكتفى بتخليدهم بكلمة «عدد» ويخلّف هؤلاء الجنود الذين اختطفوا ولديهم من الأحلام والأمنيات، من الأمل والتفاؤل ما يجعل الموت ينتحب حين يجدهم سيقوا إلى بين أحضانهم على حين غفلة منه..؟!. كم عدد الجنود الذين قُتلوا وهم يؤدّون واجبهم بتفان، ولايزال قاتلوهم طلقاء يمارسون الحياة بوقاحة ويفتخرون بأيديهم الملطّخة بدماء هي أكثر نقاءً وطهراً من أن تلمسها أيديهم القذرة..؟!. كنا نعتقد أن التجارب والأحداث التي مرّ ويمر بها الوطن قد علّمتنا أن هناك ما هو أرخص من دم عامة الشعب المغلوب على وجعه، وهو دم الجنود الذين تستكثر وزارتهم رفد وسائل الإعلام بأسمائهم كتعبير بسيط منها أن هؤلاء «العدد» هم بشر تحزن أسرهم على رحيلهم وتبكيهم مثلنا تماماً، حين نفعل مع أحبتنا الراحلين. اليوم تحديداً وجدتُ متسعاً من الوقت لأقلّب أوراقاً أودعها أحد زملائي بين يديّ فيها قضية استشهاد أخيه الأصغر الذي كان يعمل جندياً ضمن وزارة الداخلية؛ ولا يحمل ذلك الجندي الشهيد أي طير أو نجمة أو نياشين على بدلته الرسمية المصنوعة من قماش رخيص، فقط كان يحمل اسماً أودعه إياه أبوه ذات مساء وهو يستقبل قدومه إلى الدنيا ممزوجاً بصرخات أمه التي تناست كل آلامها وهي تسمع بكاءه لتتأكد أن وليدها حيّاً، لتبتسم ابتسامة فرح لا أحد يدرك معناها إلا هي، ولم تنس رغم كل الآلام أن تؤكد لأبيه أن يؤذّن في أذنه ليكون «الله أكبر» أول ما يسمع من حديث الدنيا، ثم يخبرها أنه أسماه «حسيناً» حسين محمد دومة، ربما هكذا ردّد الأب اسم وليده الضيف وهو يتصفّح بتفاؤل مستقبل أكثر إشراقاً يحتضن صغيره، لم يكن يعلم أن فلذة كبدة سيختار طريق الوطن لتمنحه وزارة الداخلية رقماً وتطلق عليه الجندي رقم «208276» وعلى أسرته المفجوعة به أن تشكر الوزارة لأنها لم تكتب فقط لا غير تذييلاً لرقمه..!!. في سوق فروة كان حسين وخمسة من زملائه في مهمّة كُلفوا بها، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، وفي تاريخ 13/ 11/ 2013م، حين تفاجأوا بسيارة «هونداي سوناتا» عليها خمسة أشخاص تعترض طريقهم وتطلق النار عليهم دون مبرّر؛ ليسقط حسين شهيداً، وليرسم دمه علامة استفهام بحجم صدمة ووجع أسرته، لماذا..؟!. المدهش في الأمر هو أن القتلة مدونون بالاسم في محاضر نيابة شرق الأمانة؛ بل الأدهى من هذا أن الرسالة التي وجّهها وكيل نيابة شرق الأمانة يحيى القاعدي إلى وكيل نيابة البحث والأمن في الأمانة يبيّن فيها أن المتهم الأول من أرباب السوابق ومن ذوي الخطورة البالغة «أي والله من ذوي الخطورة البالغة» قالها بالفم المليان، ومع ذلك وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال لايزال القتلة يزاولون حياتهم الطبيعية؛ ويبدو أن الجهات المعنية لا ترى في وجودهم خارج السجن مشكلة؛ ربما لأن القصاص لا يلزم حين يكون الضحية جندياً يحمل رقماً لا طيراً ولا نجوماً..؟!!. أليس دم حسين وزملائه الكثر تستحق أن نقتص لها، أليس دم القتلة لا تستحق أن تبقى دافئة في عروقهم..؟! كم عدد الجنود الذين تبكيهم أسرهم؛ في حين تعرف الجهات المعنية أماكن تواجد قاتليهم، ومع ذلك تتعامل وكأن الأمر لا يعنيها..؟!. حسين دومة هو أنموذج لكثير من الجنود الشهداء أستطعت أن أعرف قصته لأقيس عليها وأسأل.. فقط من أجل الشهيد حسين محمد دومة ورفاقه الشهداء على خارطة الوطن أكتب الآن وبي من الوجع ما يجعلني - أنا الضعيفة التي ترعبني فكرة الموت - أحلم برؤية دماء قاتليهم تسيل قصاصاً.