القول حينما لا يقترن بالفعل يصبح مجرد شعار أو كلام في الهواء لا يُستفاد منه.. مثله مثل تلك القوانين والأنظمة واللوائح التي تعج بها أدراج الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية ولكنها لاتجد طريقها إلى التنفيذ فتبقى بلا قيمة تُذكر.. بل لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به.. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى مقت في كتابه الكريم من يقول ولا يفعل حيث قال: «كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون» وفي آيات أخرى كثيرة طالب الله فيها عباده بالعمل «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»، ومن هذا المنطلق نشاهد الدول المتقدمة والشعوب المتحضرة تعمل بهذه التوجيهات الإلهية _ أي إنهم يتعاملون مع شؤونهم بروح تعاليم الدين الإسلامي الحنيف مع إنهم غير مسلمين _ فاستطاعوا أن يبنوا أوطانهم ويحققوا الحياة المستقرة لشعوبهم معيشياً وأمنياً وسياسياً.. مطبقين مضمون الآية الكريمة: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، وكذلك يتعاملون مع الوقت بحرص شديد لما له من قيمة عالية عندهم فلا تمضي منه دقيقة أو ثانية إلا وتستغل للاستفادة منها.. بينما نحن في اليمن وإن كنا جزءاً لا يتجزأ من المنظومة العربية لا نعطي للوقت قيمة ولا نشعر بمروره بقدر مانهدره ونتركه يمر بالساعات الطوال ولا نستفيد منه. على سبيل المثال، المواطن اليمني يقضي ساعات في مقيله يمضغ فيها القات أكثر من تلك الساعات التي يقضيها في عمله إذا كان ملتزماً.. وقد يتمرد على العمل بحجج وذرائع واهية معطلاً مصالح الناس وتضييع أوقاتهم في المراجعة جاعلاً معاملاتهم تتراكم فيجلب المتاعب لنفسه ولغيره..ونعتقد أن مثل هذه التصرفات غير المسؤولة واللامبالاة بمرور الوقت وعدم استغلاله للانجاز هي من العوامل الرئيسية لتأخرنا ورجوعنا إلى الخلف في الوقت الذي يتقدم فيه الآخرون.. وحينما نقارن وضعنا بغيرنا ونجد أنفسنا بعيدين عنهم بمسافات طويلة خاصة أولئك الذين كنا نسبقهم لا نملك إلا أن نعبّر عن الحسرة والندم ونلوم أنفسنا على استحياء.. لكننا نفتقر إلى شجاعة الاعتراف بعجزنا وفشلنا في إدارة أمورنا بطريقة سليمة..بل تدفعنا المكابرة أحياناً إلى اتهام الآخرين بالباطل وتحميلهم مسؤولية مانعاني منه ونجعلهم شماعة نعلق عليها فشلنا وعجزنا بدلاً من أن نحاسب أنفسنا.. والأمثلة على ذلك كثيرة التي يمكن أن نستشهد بها وأن تحسس البعض من إيرادها بسبب عدم تعودهم على النقد الذاتي والاصرار على تنزيه أنفسهم من ارتكاب الأخطاء وهو مايجعل قضايانا السهلة تتحول إلى قضايا معقدة يصعب حلها في غياب وجود إرادة قوية. اليوم عندما نتأمل في وضعنا الذي نعيشه والذي لا يحسدنا عليه أحد بل يشفقوا علينا منه سنجد انه مضى أكثر من نصف قرن على قيام ثورة 26سبتمبر وثورة 14 اكتوبر وتلك الأهداف التي قامت الثورتان من أجل تحقيقها ماتزال مصلوبة على الورق نتغنى بها إعلامياً ولم نطبقها على أرض الواقع.. وبدل مانقف أمام ما قدمناه للشعب اليمني خلال هذه الفترة الطويلة جداً ونقيم تجربتنا لإزالة ماعلق فيها من شوائب..انشغلنا بمحاكمة عهد ماقبل الثورة سواء كان متمثلاً في حكم الأئمة في شمال اليمن أو في حكم الاستعمار والسلاطين في جنوباليمن سابقاً..وكم هو مؤسف أن يعتقد البعض انه من خلال هذا التوجه الاعلامي والدعائي لتحميل عهد ماقبل ثورة «سبتمبر واكتوبر» مسؤولية تخلفنا قد أدى المهمة التي عليه وفي نفس الوقت للتبرؤ من مسؤولية مشاركته في نشوء الوضع الذي نعيشه..مع أن هذا النهج في خطابنا السياسي والاعلامي هو للهروب من الحقيقة و يهدف في الأساس الى تضليل الجيل الجديد وخداعه وهو أيضاً محاكمة فعلية للنظام الجمهوري من حيث لا نشعر ،الذي حل محل عهدي الأئمة والاستعمار والسلاطين وكشفاً لفشله في تحقيق ماكان يصبو إليه الشعب من تطلعات.. وعليه فإن من تبقى من كبار السن أمد الله في أعمارهم ممن عاصروا تلك الفترة يسخرون من هذا الخطاب السياسي والاعلامي التضليلي لأنهم يعرفون الحقيقة جيداً وعندما يقارنون وضعنا السياسي الحالي بما كنا عليه في الماضي يخرجون بنتيجة تصب في صالح عهد ما قبل الثورة على الأقل من حيث وجود هيبة الدولة ووجود الأمن والاستقرار الذي كان يتمتع به المواطن اليمني في الشمال والجنوب آمناً على نفسه ودمه وعرضه وماله بغض النظر عن الفارق المعيشي بين ما كان عليه المواطن قبل خمسين عاماً وماهو عليه اليوم في القرن الواحد والعشرين الذي أصبح فيه العالم كله من حيث التطور عبارة عن قرية واحدة.. وإن كانت المقارنة ظالمة في هذا الجانب، لأن دخل الشعوب حينها كان محدوداً جداً بحسب ظروف تلك الفترة وكان جيراننا في المنطقة أكثر سوءاً منا بدليل أن الشعب اليمني كان يعمل وينتج ويدفع، فأصبح بعد الثورة يقبض ولايعمل ويجري وراء اقتناء السلاح وحمله فتسبب في تدمير نفسه وقد أكد هذه الحقيقة الأستاذ محسن العيني في مذكراته. لكن لو قارنا وضع مدينة عدن التي أصبحت اليوم العاصمة الاقتصادية والتجارية لليمن الواحد من حيث مكانتها وأهميتها قبل خمسين عاماً فإن المقارنة ستكون لصالح مانعتبره الماضي البغيض.. لقد كانت ترسي في ميناء عدن حينئذٍ الذي عطلناه اليوم أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة في العام الواحد.. وكان يطلق على عدن «لؤلؤة الجزيرة والخليج».. وقد سبق أن تحدثنا عن وضع مدينةعدن في عهد الاستعمار في مقال سابق لما كانت تشكله لدول الجزيرة العربية والخليج من قبلة اقتصادية يتجهون إليها لجلب احتياجاتهم منها.. وكانت هذه المدينة الساحرة التي أصبحت اليوم كاليتيمة لا تجد من يحمي أهلها من القتل اليومي تنعم بالكهرباء على مدار 24 ساعة.. بينما حالياً يتمنى سكانها أن يستمر التيار الكهربائي لعدة ساعات متواصلة دون انقطاع.. فضلاً عن نظام المرور الذي اشتهرت به عدن و كان يعد أفضل نظام مروري في الوطن العربي.. صحيح إنها حافظت عليه بعد الاستقلال لفترة لا بأس بها لكن جاء من استكثره عليها ودمره نهائياً وحوله إلى فوضى مرورية ليصبح حالها كما هو حال المدن اليمنية اليوم.. وليس عيباً أن ننتقد أخطاءنا بهدف تصحيحها. [email protected]