وحدها بوتقة عدم الاستغلال السياسي للدين تستطيع تذويب الشعب في جوهر إنقاذي حداثي مشترك؛ تؤكد الشواهد أن هذا هو البصيص المعتبر الذي يجب أن يكون أساساً لتنظيم مستقبل مجتمعنا سياسياً في ظل استشراء منطق الجماعات الدينية المغلقة، على سبيل المثال: جعل جوهر الزيدية الولاية للبطنين، هو ما حوّلها إلى طريقة لاحتكار الحكم بدعوى الاصطفائية. والشاهد هو أن الولاية للبطنين مفهوم بائد ضد المواطنة والدمقرطة والتمدُّن، إلا إنها مثل الخلافة لدى السلفيين أيضاً، مفهومان منغلقان ضد حقوق الشعوب، ويمثّلان النتاج السيئ لخلط الدين بالسياسة، إضافة إلى إرهاب المجتمع، وعدم تحرير الدين من البربريات القديمة التي عملت على تشويه مضمونه العادل. يستحضرني هنا قول "تروتسكي" العميق النابع من خفق روحه المتأملة لمثل هذه المصائب المعيقة للتطوّر: “إذا قارنا الحاضر بالماضي البعيد؛ شعرنا أننا نعيش في عالم عجيب يرجع فيه كل شيء إلى الوراء نحو السديم البدائي، ونحن نشعر أننا عاجزون في هذا التخمُّر كله”. الحاصل هو أن الاستئثار باسم الدين أشبه بوجه "ميدوزا" التي بجمال خارق حسب الأساطير الميثولوجية القديمة لكن شعرها استحال إلى أفاعٍ مخيفة حين أهانت الآلهة منيرفا - آلهة العقل والحكمة - وصار من ينظر إليها يتحجّر..!!. تعزيزاً للسياق كذلك أنقل هنا وباعتزاز شديد ما قاله الباحث والحقوقي التونسي القدير عبدالباسط بن حسن في كتابه القيّم «حقوقنا في الثقافة والمجتمع» الصادر عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان: «لم تعرف بدايات هذا القرن معنى يكاد يتوحّد حوله الأفراد والجماعات أكثر من الخوف، الخوف من الماضي الذي اختزل إلى بعد واحد أوحد تتناسل من أعماقه المظلمة قوى الكراهيّة والحقد والدّمار باسم "جنّات مستحيلة الوعود" والخوف من الحاضر الذي أصبح مستعصياً على الفهم بعد أن فقد الأفراد لغة تساعدهم على فكّ رموزه، وحوصرت تجارب تعقّل الواقع والحلم به بأيديولوجيّات “الجموع” والخوف كذلك من المستقبل الذي لم يعد يحضر بأحلامه وأوهامه التي تغذّي المشاريع الوجوديّة، إنّنا نعيش لحظة تذكّرنا بلوحات “جيروم بوش” الفنان الذي شهد مأساة الانتقال إلى قرن جديد في العصور الوسطى، حيث ينتفي الزّمن بمختلف أبعاده، وتحتفل الكائنات بمراسم القيامة في مشاهد تجمع بين الرّعب من المصير المحتوم الذي تلقى الكائنات في أتونه والتّلذّذ بالخلاص، أي خلاص، مهما كانت آلامه، هي لحظة قصوى يبحث فيها “الإنسان” عن نكران أدران واقعه والاستكانة إلى قوى تداوي ولو بالوهم حيرته وآلامه، وتستثمر قوى الهيمنة الأيديولوجيّة والسياسية أحاسيس الخوف وهواجسه بتشجيع تعبيرات الهويّة الأكثر انغلاقاً وتطرّفاً وإثارة النّعرات الدينية والقوميّة والقبليّة والطّائفيّة، وتغليب منطق الاستهلاك على منطق الإبداع وإفراغ الثّقافة من بُعدها النّقديّ ومحاصرتها بمنتوجات اللاّ ثقافة والتّبسيط السّاذج للمفاهيم والشّعوذة، إنّها لحظة محاولة تعميم العزلة والإقصاء والتّهميش التي تقيم سلطتها على غريزة "الخوف من المجهول" وتستمدّ شرعيّتها من عجز السّياسة عن بناء أفق للعيش معاً وإيجاد حلول لقضايا المواطنة والعدالة والأمن». [email protected]