شاءت لي الظروف أن أكون في رحلة عمل إلى مدينة المكلا بعد يومين من أحداث الخميس الدامي «14 أغسطس 2014م» التي شهدتها المدينة بمهاجمة مجاميع قاعدية لها بسيارات مفخّخة، وعناصر مسلّحة انتوت السطو على أحد البنوك فيها، مثيرين بعمليتهم هذه الرعب في المدينة الوادعة التي يُراد لها خلع جلباب التسامح والتعايش لتلبس رداء العنف والكراهية الذي لم تلبسه في تأريخها وتمدّنها الطويل، لكنها ومنذ أعوام أربعة بدأت تعاني بفعل ذلك جرّاء دعوات العنف المتصاعدة بسبب الانفلات المريب لتجد صداها في أوساط الشباب بطريقة تثير القلق. في منتصف 2010م كانت آخر زيارة لي إلى عاصمة محافظة حضرموت، وما لفت نظري وقتها هو أن المكلا مثلها مثل بقية مدن المحافظات الجنوبية وحواضرها صارت ترزح تحت ضغط المد الحراكي الذي استقطب الآلاف من شرائح المجتمع ومكوّناته إلى صف الصوت الضاج المنادي باستعادة الدولة. غير أن صوتاً آخر بدأ ينبثق بقوة من داخل الحركة الكلية للصوت الصاخب آخذاً بعداً جديداً، وهو بعد «الحضرمة» إذ بدأ هذا الصوت المغاير يعبّر عن نفسه بوصفه صوت الخصوصية «ببعديه الثقافي والتاريخي» الذي يريد لهذه الجغرافية أن تستعيد هويتها بعيداً عن وصايا الوحدويين والانفصاليين معاً، فمظلومية لحظة الاستقلال سابقاً كما يريد قوله هذا الصوت هي التي أوقعتهم في شرك المغامرين والمقامرين السياسيين الذي تسلّموا جغرافية شاسعة توحّدت أجزاؤها المتناثرة «سلطنات وإمارات ومشيخيات» أواخر ستينيات القرن الماضي بفعل مد قومي طاغٍ كان يجد في التحوّلات التاريخية والاجتماعية «في المركز والهوامش معاً» حواضن مهمّة في المجتمعات المحلية الفقيرة التي كانت حضرموت «الطبيعية» إحداها، وحين دخلت البلاد برمّتها في شكل الدولة الجديدة «الجمهورية اليمنية» في مايو 1990م وجدت حضرموت نفسها ضمن هذا الشكل الجديد «بلا رغبة منها» كما يذهب إليه هذا الصوت. إذا ورطتان تاريخيتان أوقعتا حضرموت في وهم الدولة «الوطنية» في محطتين زمنيتين مختلفتين، والخروج منهما حسب الصوت ذاته لن يتم إلا بمكابدات قاسية أقلها الفكاك من نفوذ مراكز القوى التي وجدت في تسامح أهل حضرموت مدخلاً لتفخيخها بكل ما هو «سيّئ» بهدف إبعادها عن أي مشروع وطني. الثروات الطبيعة الكبيرة والمتنوّعة التي تمتلكها حضرموت كانت مطمعاً لمراكز النفوذ في المركز «العاصمة» التي قامت بتأسيس شركات نفطية أو احتالت على توكيلات الشركات المعروفة التي عملت في القطاعات النفطية نهباً وتدميراً فاضحاً لقرابة عشرين عاماً بتسهيلات من مركز الحكم سابقاً، ودائرته الضيّقة التي لم تكن بعيدة عن مزاج النهب المنظّم الذي كان يُحمى بقوات عسكرية ضاربة استقدمت من الشمال إلى مناطق الحقول لهذا الغرض، حتى إن قائد القوات التي أوكلت إليها حماية الشركات تحوّل إلى ملياردير حقيقي جرّاء الإتاوات التي تُفرض على هذه الشركات، وأن جزءاً مهمّاً منها كان يذهب إلى قادة كبار في العاصمة معروفين بالاسم، وكل هذا يتم بعيداً عن القرار الذاتي لأبناء حضرموت الذين لم يتعد حضور بعض المؤثّرين منهم دور المحلّل، بما فيهم أصحاب رؤوس الأموال الذين عادوا ببعض فتاتها من الخارج «الخليج والسعودية تحديداً» ليعمل في بعض المشاريع الخدمية البسيطة والصناعات التحويلية أو السمكية إلى جانب أعمال الرعاية الاجتماعية للأسر الفقيرة..!!. أما حين بدأ الصوت الحضرمي يعبّر عن ملله بنشره قوائم النهابة من مراكز النفوذ وشاغلي الوظائف الحيوية وغير الحيوية في المحافظة من خارج أبنائها مستقطباً إلى صفه المزاج العام للشارع لم يكن أمام أصحاب المصالح «داخل وخارج حضرموت» سوى إدخال المحافظة «ساحلاً ووادياً» في دوامة العنف والفوضى التي ابتدأت باستخدام هامشيي المدن وعواطليتها «الذين سبق لهم أن جُرّوا إلى مربعات الإدمان والحاجة» في ترويع المواطنين البسطاء من أبناء المحافظات الشمالية والذين يعملون في مهن وأعمال خدمية بسيطة ونهب وإحراق محلّاتهم وبسطاتهم «في المكلا والغيل والشحر وسيئون» مشعلين بذلك فتيل الكراهية وعصبويات الانتماء الجغرافي بطرائق لم تخل من عنصرية فجّة. ولأن المجتمع الحضرمي معروف بتسامحه الديني ومسحة التسنّن الصوفي المتآلفة مع المكان الوادع وطبيعته «التي جعلت من التجار الحضارم يمثّلون رسل سلام ومحبّة دينية في شرقي آسيا وأفريقيا في القرون الماضية» لم يكن أمام قوى الشر من طرق بديلة لتشويهه سوى بتفخيخه بجماعات العنف الديني الدخيلة على المحافظة التي استغلّت غياب الدولة وانعدام برامج التنمية واتساع مربّعات الفقر وانتشار البطالة في الأرياف والعشوائيات حول المدن للتكاثر بل وتحويلها إلى حواضن صلبة للخطاب المتطرّف. مدينة «القطن» القريبة من سيئون مثلاً تحوّلت بمرور الوقت إلى مركز تفريخ عجيب للجماعات الدموية بسبب أن التركيبة الديموغرافية للمدينة الصغيرة تبدّلت إلى النقيض خلال سنوات قليلة، لأن الوافدين إليها والمستقرّين بها من خارج المحافظة تجاوزت نسبتهم السبعين في المائة اشتغل معظمهم في أعمال غير قانونية لهذا ليس بمستغرب أن تتحوّل إلى مركز لافت من مراكز التهريب والجريمة المنظمة التي تساعد على استيطان الأفكار المنحرفة فيها. منطقة «الخربة» في ريف المكلا وعشوائيات «فوة» و«غليلة» و«بويش» و«الكود» ومناطق البدو المحيطة بالمكلا والغيل والشحر؛ حيث تتعاظم نسبة البطالة في أوساط الشباب غدا حضور «القاعدة» فيها أمراً طبيعياً لأنها قدّمت نفسها كبديل للقوى السياسية والاجتماعية الغائبة، المفترض أن تكون مثل هذه المناطق مساحات تتبارى فيها أفكارها واستقطاباتها التنظيمية. ومع كل ذلك لم تزل حضرموت تؤجّل لحظة فنائها وتقاوم مثل هذا التدمير الممنهج لإرثها الثقافي والأخلاقي، ففي المكلا القديمة لم تزل سماحة الحضرمي وأخلاقه وبساطته حاضرة بقوة في المقهى والمتجر والمطعم، لم تزل نظافة المكان وانضباطية الناس لحظة رائعة تتجسّد في الفضاء العام الذي لم يزل متشبّثاً بالحياة بالرغم من الموت الذي يُراد له تلبسها مثل سوار في معصم. [email protected]