يقتضي الأمر في البداية توضيح الفرق بين مصطلحي التغيير كظاهرة، والتغيير كهدف نطمح للوصول إليه.. فالتغيير ظاهرة أزلية وعملية مستمرة، أما عوامل التغيّر فهي فقد تكون بدوافع داخلية، أو عوامل خارجية كالحروب والاحتلال الأجنبي.. والتغيير يحصل في القيم والمعايير الثقافية والمعتقدات والمفاهيم والأفكار، لكنه في هذه المجالات تغيير بطيء لا يُلاحظ إلا بمرور الزمن.. لكن التغير أو التغيير في النظم الاجتماعية وبخاصة ما تقرره حكومات الدول فهو أبرز ظهوراً للعيان: كنظام الزواج والأسرة، ونظام الاقتصاد والملكية الزراعية والنظام التربوي مثل (سِن الالتحاق بالتعليم، ومجَّانيته)، والنظام السياسي الذي قد يتحول بين ليلة وضحاها من ملكي إلى جمهوري، أو من استبدادي إلى ديمقراطي.. لكن السؤال الذي يبقى دائماً موضع قلق هو: كيف يحدث التغيير الاجتماعي المنشود؟ في الواقع، لا توجد نظرية تحسم هذا الأمر، فأساليب التغيير في الاتجاه المنشود، والتوازن بين الرغبة في التغيير والمحافظة على الوضع القائم، والتحكم في سرعة التغيير، تظل الخبرة فيها محدودة، والجدل حولها كثير.. ويبقى اليقين الذي نعرفه: “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.. ومن هنا تبدأ البذرة الأساس في أي عملية تغيير عادة، من فرد يقوم بالمبادأة ويستجمع الإرادة، ويحمل على عاتقه مسؤولية، ويتولّى الإبداع في بناء الرؤية وتنفيذها.. ولنا في الأنبياء أبرز مثال على ذلك. ومن هذا المنطلق تتمحور سياسات واستراتيجيات الأنظمة العربية بصورة كاملة حول دوامها الذاتي ومنع التغيير والتغير مهما يكن مصدره.. ومهما يكن إيقاعه الزمني.. ولذلك فمن سماتها أنها أنظمة ليست تغييرية.. ولا تتغير.. بل ومقاومة للتغيير.. والأرجح أن لذلك صلة وثيقة بكون أية محاولات للتغيير السياسي تترافق مع مخاطر انهيار الدولة والحروب الأهلية. ولكي يضمن النظام بقاءه متماسكاً أمام رياح التغيّر والتغيير، يعمل حثيثاً لخلق بيئة اجتماعية مناوئة لأية محاولات من هذا القبيل بطرق متنوعة، أبرزها ثلاث هي: فائض من العنف: الغرض منه سحق فكرة الاعتراض الاجتماعي، وليس فقط التغلّب عليه.. عقيدة إجماع وطني مفروضة تخفي الطابع الأقلوي للنظام مهما ارتدى من حلاّت جديدة.. وأخيراً، تفريق المجتمع المحكوم وحرمانه من أي تماسك ذاتي، لتسهيل السيادة عليه والتحكّم بمستوى تماسكه ووحدته. وفي ظل هذا الوضع يغيب إطار التماهي الوطني، ويظهر التمايز الديني أو المذهبي أو الإثني من تلقاء ذاته.. كنتاج لتشجيع الأنظمة أو تعاملها مع مجتمعاتها بوصفها مكونة من أديان ومذاهب وإثنيات.. وتعتمد على هذه السياسة اعتماداً تفاضلياً كركيزة لحكمها وأمنها، وبما يلبّي حاجتها إلى توفير قاعدة مأمونة وموثوقة لنظامها. وهنا يبرز ما يعرف بالأولغارشية أو (الأوليغاركية)، وهو مصطلح يعبّر عن حكم القلة، كشكل من أشكال الحكم، تنحصر بموجبه السلطة السياسية بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.. وغالباً ما تكون الأنظمة والدول الأوليغاركية تحت سيطرة عائلات نافذة تورث النفوذ والقوة من جيل إلى آخر. وقد كان «أفلاطون» هو أول من أشار إلى هذا المصطلح وذلك في كتابه (الجمهورية)، حيث قسّم أنظمة الحكم إلى: الدولة المثالية (جمهوريته)، والدولة الديمقراطية، ثم الأوليغاركية.. وفي كتابه (السياسة) عاد وقدم تقسيماً أنضج وأوضح من ستة أنواع: منها ثلاثة تتقيد وتحترم القانون، وثلاثة لا تلتزم بالقانون، ومنها حكم الأوليغاركية. وجاء بعده (أرسطو) ليقدم المزيد من التفاصيل لمواصفات حكم القلة.. فقال: إنها تشترط نصاباً مالياً معيناً في من يتمتع بصفة المواطن.. وتنتهي دائماً بحكم الطغيان وتصبح مشكلتها الرئيسية هي الاستئثار بالسلطة.. إلا أن الأوليغاركية لا تعني دائماً حكم القلة الأثرياء، وإنما هي مصطلح أوسع يشمل أيضاً، سمات أخرى غير الثراء. ويستخدم هذا التعبير في العصر الحديث لوصف الحكومات التي تعتمد على نفوذ أجنبي، أو التي ليس لها رصيد جماهيري، فتعتمد على دوائر التأثير في السلطة كرجال المال أو الصناعة. ولمزيد من التوضيح ينبغي التفريق بين مصطلحي الأقلية والقلة.. فالأقلية: تتمثّل في جماعة دينية أو مذهبية أو إثنية.. بينما تتمثل القلة في طبقة أو شريحة. وتهدف نُظم القلة إلى التحكم بقوة في العمليات الاقتصادية والموارد والثروات الوطنية، من أجل الحفاظ على مصالح أقلية اجتماعية. ونعتقد أن (الطائفية) هي كل انغلاق ديني أو طائفي على أساس معتقدات موروثة ضد الآخر المختلف.. والطائفية هي انتماء لطائفة معينة دينية أو اجتماعية، ولكنها ليست عرقية، فمن الممكن أن يجتمع عدد من القوميات في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم. وفي معظم الأحيان تكون “الطائفية” السياسية مكرّسة من ساسة ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي بل هو موقف للحصول على (عصبية) كما يسميها (ابن خلدون) أو شعبية، كما يطلق عليها الآن، ليكون الانتهازي السياسي قادراً على الوصول إلى السلطة.. إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفياً، كما لا يجعله طائفياً عمله لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحق الآخرين.. ولكن الطائفي هو الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغمطها حقوقها أو ينتزعها منها ويهبها لطائفته تعالياً عليها أو تجاهلاً لها وتعصباً ضدها.. وهنا نجد أن النفوذ الطائفي هو من صنع الخطط السياسية للأوليغارشية، لضمان الحكم الامتيازي لطبقة اجتماعية محدودة الحجم.. ولعل هذه هي الحلقة المفقودة بين (الصراع الطبقي) و(الصراع الطائفي).. وبالتالي يمكننا القول إن الطائفية ظاهرة مشتقة وليست أساسية أو أصلية.. إنها مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشأن توجيهها وتوزيعها. ويرجع نجاح الطائفة في تسييس وحشد جمهور محروم خامل وزجّه في الحياة العامة، إلى تحريره من غربته ومنحه شعوراً بقضية مشتركة ودرجة من المساواة لا تتوفر له في أطره العضوية التقليدية ولا في الأنظمة الوطنية الشكلية القائمة. وختاماً، نستخلص أن الطائفية لا تصنع خارج السياسة والسلطة أو بمعزل عنهما.. كما يمكننا القول أيضاً، إن الطوائف لا تشكل أطراً للرقي الفكري والسياسي والأخلاقي إلا في المجتمعات التي تدنت فيها سلطات الدولة إلى مستوى العشيرة. [email protected]