تاريخ اللامركزية يمتد لآلاف السنين، فهو سابق على المركزية، ورغم النشأة العفوية ل (اللامركزية) في بداياتها السحيقة، إلا أن هنالك اتجاهاً عالمياً نحو الأخذ بها كنمط في إدارة وتسيير شؤون المجتمعات بما يضمن التخلّص من النزعة الاستبدادية للمركزية ويفتح آفاقاً أكثر رحابة لمشاركة واسعة للمواطنين في الثروة والسلطة. كان الصيادون وجامعو الثمار في العصر الحجري لا مركزيين بالضرورة، إذ لم تسمح ظروف الترحال من منطقة إلى أخرى بتكوين بنى سياسية تسمح بإقامة حكومات مركزية استبدادية، ولا تزال أنماط اللامركزية العفوية سائدة في المجتمعات التي تعيش حالات البداوة السياسية والاقتصادية كما في منطقة الاسكيمو شمال كندا، أو المجتمعات البدائية في أوساط أفريقيا وغابات الأمازون.. ومع ذلك فإن المجتمع البشري شهد منذ بداياته السحيقة تبدلّات بين اللامركزية العفوية التي فرضتها صعوبة التنقل من مكان إلى آخر, وبين المركزية القصدية التي بدأ الأخذ بها مع اكتشاف الإنسان للزراعة والاستقرار ونشوء التجمعات البشرية بما أوجبته من حاجة لى إدارة مياه الري، لتنشأ معها أولى الحكومات المركزية في مناطق الوديان سواء في بلاد الرافدين أو مصر .. غير أن الاتساع المضطرد للامبراطوريات لم يرافقه توسع مماثل في وسائل المواصلات والاتصالات، ما فرض واقعاً لا مركزياً على أنماط الحكم.. وتقدم الامبراطورية الإسلامية في أطوارها المتعددة نموذجاً جيداً لتمثيل الحالة، إذ كان الخليفة المسلم في مركز الخلافة يعهد إلى ولاة له في الأقاليم المترامية بصلاحيات سلطوية لتسيير شؤون مناطقهم. وفي أوروبا كما الهند نشأت اللامركزية للتحرر من هيمنة المركز، ومثلما دعا الزعيم التحرري الهندي (المهاتما عاندي) إلى تأسيس المجتمعات على قاعدة القرية، بما يتيح للمواطنين في قاعدة الهرم مشاركة فاعلة في صناعة القرار، بدأت بوادر اللامركزية في أوروبا عندما نشأت في سويسرا البلدات القروية لتمارس نوعاً من الإدارة الذاتية المتحرّرة من هيمنة واستبداد الملوك الإقطاعيين وطغاة عصر النهضة.. ورغم كون الثورة الفرنسية بدأت تنحو بإفراط نحو المركزية، تزعّم رجال ومفكرون حركة الاحتجاج على النهج المركزي لتنشأ البلديات الباريسية التي كانت تسيّر أمورها ذاتياً بعيداً عن سطوة المركز.. فيما بدأ بعد ذاك المستوطنون الأمريكيون الأوائل على ضفاف نهر المسيسبي بتنظيم أنفسهم في مجتمعات تُدار ذاتياً ويؤسّسون لقوانينهم الخاصة المسيِّرة لشؤونهم في نوع من التنظيم الذاتي اللامركزي، وظل هذا التوجّه غاية أصيلة حتى بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، لتصبح الولاياتالمتحدةالأمريكية الفيدرالية الأعرق عالمياً. الآن أضحى العالم برمّته يأخذ باللامركزية بشقيها الإداري والسياسي، أو أقله بنمط معين من اللا تركيز الإداري، ولم تعد المركزية المفرطة قائمة سوى في ثلاث دول صغيرة المساحة وقليلة السكان، منها دولة الفاتيكان في قلب العاصمة الإيطالية روما وسان مارينو في الجبال المنعزلة لإيطاليا.. في حين أن الغاية الجامعة للتحول إلى اللامركزية، هي تجاوز مفاسد المركزية وتحطيم تابوهات المركز المقدس بما يحفظ للإنسان حريته في مجتمع يتشارك كافة أبنائه في السلطة والثروة، وهي ذات الأهداف التي جعلت اليمن يسعى حالياً إلى الانتقال إلى لامركزية حقيقية قائمة على نظام اتحادي وفق مخرجات مؤتمر الحوار.. لتنذر أي محاولات للتراجع عن هكذا نهج أو محاولة تأبيد هيمنة المركز المقدس بالخطر الماحق على الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي. [email protected]