الوفرة في وسائل الإعلام والاتصال الحديثة لا تعني بالضرورة وفرة معلوماتية بل هي في أحايين كثيرة أثمرت زيادة في الغموض والضبابية، ورغم كون التقانة الحديثة بإمكاناتها الهائلة استطاعت توفير وسائط متعددة للتعبير والنشر وحرية القول بعيداً عن مقص الرقيب، بيد ان ذلك الكم الهائل غالباً ما يرافقه حالة من الفوضى لابتعادها عن معايير المصداقية والمهنية. ثورة الإنفوميديا أو الطفرة الهائلة في وسائل الإعلام التي تتمظهر في الكم الزاخر من القنوات الفضائية والإذاعات والصحف وتشعب وسائط الانترنت: المواقع الاخبارية، اليوتيوب، ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر والمدونات الشخصية، أتاحت لكثير من الأفراد حرية القول والكتابة والتعبير وصار بإمكان أيما شخص إنشاء صحيفته او قناته التلفزيونية الخاصة، مثلما أثمرت فاعلية في نقل المعلومات والوقائع بعيداً عن سلطة الرقيب وسحبت البساط من وسائل الإعلام المملوكة للدولة والتي تحتكر بواسطتها أدوات الضبط الاجتماعي وأوعية نقل المعلومات في أغلب دول العالم الثالث.. إلا أن الثورة الإعلامية استحالت الى فوضى، فتوافر وسائط الاتصال لا يقابلها دائماً وفرة في المعلومات الدقيقة والموضوعية، بقدر ما تفرز معلومات ملتبسة وغامضة، خاصة وهي تعمد الى التضليل وتعمية الحقائق في نقل الأحداث واختلاق وقائع لم تنبني على معطيات واقعية. جزء من الإشكالية يعود الى هيمنة الأحزاب والقوى السياسية على هذه الوسائل واستبدالها هيمنة الدولة بسلطتها الاستبدادية الخاصة، فضلاً عن خضوعها لسلطة الممولين والداعمين لها لتحرص بالنتيجة على مراعاة توجهاتهم واتجاهاتهم لا الحرص على نقل الوقائع كما هي دونما اختلاق او تزييف، لتفرز هكذا وسائط رغم وفرتها حالة من الضبابية والمفاهيم الملتبسة لدى المتلقي سواء كان قارئاً او مستمعاً او مشاهداً، تجعله عاجزاً عن تكوين رؤى سليمة واتخاذ مواقف ملائمة تتناسب مع ما يعتمل في الساحة من أحداث وهو ما درج على تسميته ب «الرأي العام»، الذي اضحى بدوره ضحية الإعلام المنفلت من أي معايير مهنية وأخلاقية، حتى صار من عادة المتلقي ان يقرأ او يسمع خبرا عن شخصية ما أو حدث معين، ليأتي النفي بعده بدقائق او ساعات بعدم صحة ما جرى بثه اوتم نشره كما في عديد مواقع اخبارية تختفي بذات السرعة التي تظهر بها ليتجاوز عددها المئات في بلد محدود السكان كاليمن والتي تسهم بعضها في ما نشهده من أزمات سياسية متواترة. الإعلام الجيد يستهدف نقل الوقائع للمتلقين بما يسهم في تكوين رأي عام سليم تجاه القضايا والأحداث، بخلاف الدعاية أو البربجندا التي تعمد الى دس السم في العسل، عن طريق نقل جزء من الحقيقة في خضم بحر من الأكاذيب بهدف التضليل وبما يفضي سلباً إلى تكوين وعي زائف.. والدعاية فن الكذب وخداع الناس جرى تأصيلها من قبل غوبلز وزير الدعاية في عهد النازية الألمانية إبان حكم هتلر.. ورغم مضي عشرات السنين على وفاة غوبلز صاحب مقولة اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون إلا ان تأثيراته لا تنفك حاضرة في طيف واسع من خلفائه، أضحت تتصدر العديد من وسائل الإعلام وتعمل من خلالها دونما رادع من أخلاق أو ضمير في مواصلة ماراثون الكذب على الناس والافتراء عليهم.