قوات جديدة تصل حضرموت والانتقالي يربط الأحداث باتفاق الرياض ومكتب الصحة يصدر إحصائية بالضحايا    المكتب السياسي لأنصارالله يعزي باغتيال "رائد سعد" ويؤكد: اليمن سيبقى مع فلسطين    باريس تستدعي أبناء عفاش للمحاكمة بتهم فساد وغسل أموال عامة    ترامب 2.0 يعيد طرح تقسيم اليمن والاعتراف بالحوثي كمدخل لإعادة هندسة خليج عدن والبحر الأحمر    معدن العام 2025.. الذهب يكسر الأرقام القياسية مجددًا ويتصدر الأصول الأفضل أداءً    قبائل خولان تؤكد النفير العام والجاهزية القصوى لمواجهة العدوان وأذنابه    بقيادة العميد الوالي.. انطلاق عملية «الحسم» لتأمين أبين وقطع إمداد الإرهاب    كتاب متخصص في التأمينات والمعاشات للخبير التأميني عارف العواضي    صراع الحسم بين أربعة منتخبات عربية في كأس العرب    ريال مدريد يجهز للتخلص من 8 لاعبين في الميركاتو الصيفي    منظومة الكهرباء مهددة بالتوقف الكلي في المحافظات الجنوبية وفق رغبة سعودية    الدكتور الترب يعزّي في وفاة الشيخ صالح محسن بن علي    البشيري : نمتلك قاعدة إنتاجية قوية في الملبوسات    إعلان قضائي    شبوة.. حريق داخل مطار عتق الدولي    تدشين أعمال اللجنة الرئاسية المكلفة بتقييم ومتابعة تنفيذ خطط 1445- 1446ه بحجة    الأستاذة أشجان حزام ل 26 سبتمبر: 66 لوحة فنية متميزة ضمها متحف الزبير بسلطنة عمان    وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن "25"    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    مرض الفشل الكلوي (32)    الجاوي: الجنوب لدى سلطة صنعاء أصبح مجرد ملف في أسفل الأرشيف    تعز.. الجوازات تعلن استئناف طباعة دفاتر الجوازات وتحدد الفترة التي تم الوصول إليها في الطباعة    طالبوا بوقف الإبادة الجماعية والهجمات الجوية الإسرائيلية.. مظاهرة في ستوكهولم احتجاجا على خروقات الاحتلال لاتفاق وقف اطلاق النار    صندوق النقد الدولي يعلّق أنشطته في اليمن ومخاوف من تبعات القرار على استقرار أسعار الصرف    هيئة الآثار والمتاحف تنشر القائمة ال30 بالآثار اليمنية المنهوبة    الصحفي والمراسل التلفزيوني المتألق أحمد الشلفي …    هل افلح الحزب الاشتراكي في تأطير تجربته الأنسانية حيال مهمشي جنوب ما قبل الوحدة؟! (3-3)    صنعاء .. اختتام دفعة القائد الجهادي الشهيد الغماري في الحاسوب والبناء الجهادي    الفرح : ما يجري في المناطق المحتلة صراع لصوص    قائمة منتخب الجزائر لبطولة امم افريقيا 2025    الكالتشيو: الانتر يقفز للصدارة بعد تخطيه جنوى بثنائية    عدن.. محطة حاويات المعلا تعود للخدمة مجدداً بعد توقف لسنوات    ظل الأسئلة    أسياد النصر: الأبطال الذين سبقوا الانتصار وتواروا في الظل    فعالية طلابية في حجة بميلاد الزهراء عليها السلام    السلطة المحلية: تمكين المؤسسات الرسمية من أداء عملها شرط لاستعادة استقرار وادي حضرموت    الكثيري يترأس لقاء موسعا بالمكتب التنفيذي وعقال الحارات والشخصيات الاجتماعية بسيئون    العليمي: انسحاب القوات الوافدة الخيار الوحيد لتطبيع الأوضاع في حضرموت والمهرة    خبير طقس يتوقع موجة برودة قادمة ويحدد موعدها    ست فواكه تقلل خطر الإصابة بأمراض الكلى    محافظ عدن يفتتح سوق الوومن في مديرية صيرة    جيش الاحتلال ينفذ سلسلة عمليات نسف بغزة    الرئيس الزُبيدي يطّلع على الوضع الصحي العام بالعاصمة عدن والمحافظات المحررة    الرئيس الزُبيدي يوجه بتبنّي حلول مستدامة لمعالجة أزمة المياه    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    عدد خرافي للغائبين عن ريال مدريد بمواجهة ألافيس    صنعاء.. هيئة الآثار والمتاحف تصدر قائمة بأكثر من 20 قطعة أثرية منهوبة    تعز.. بئر المشروع في عزلة الربيعي :جهود مجتمعية تنجح في استعادة شريان الحياة المائي    حضرموت أم الثورة الجنوبية.. بايعشوت وبن داؤود والنشيد الجنوبي الحالي    رونالدو شريكا رئيسيا في خصخصة النصر السعودي    واشنطن تسعى لنشر قوات دولية في غزة مطلع العام    منتخب الجزائر حامل اللقب يودع كأس العرب أمام الإمارات    الله جل وعلآ.. في خدمة حزب الإصلاح ضد خصومهم..!!    ثلاث عادات يومية تعزز صحة الرئتين.. طبيب يوضح    لا مفر إلى السعودية.. صلاح يواجه خيبة أمل جديدة    ضرب الخرافة بتوصيف علمي دقيق    رسائل إلى المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهجرة النبوية نقلة حضارية شاملة
نشر في الجمهورية يوم 20 - 01 - 2007


- بقلم/د.صحراوي مقلاتي ..
أول ماتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية الأمر في ضوء «إقرأ» و «قم فأنذر» كان قد تحرك على صعد ثلاث:
صعيد الإنسان.
وصعيد المجتمع والدولة.
وصعيد الحضارة.
فكانت المرحلة المكية من الدعوة الإسلامية هي التركيز على بناء الإنسان الرسالي النوعي الجديد الذي عليه أن يحمل أعباء الرسالة الجديدة للعالم أجمع بكل ماتحمله من أبعاد متعددة مراعية مرحلة النضج العقلي والحضاري التي بلغتها البشرية وماستبلغه في المستقبل القريب أو البعيد.
الهجرة لحظة ميلاد الزمن الإسلامي
عن ميمون بن مهران قال رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه صك محله شعبان فقال عمر رضي الله عنه أي شعبان هذا الذي هو آت أو هو الذي نحن فيه ثم قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ضعوا للناس تاريخاً فقال بعضهم اكتبوا على تاريخ الروم فقيل إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين وهذا المطلوب وقال بعضهم اكتبوا على تاريخ الفرس فقيل إن الفرس كلما كان ملك أرخ من قبله فاجتمع رأيهم أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فوجدوه عشر سنين فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد تم إدرك «الهوية الحضارية الجديدة» من طرف الصحابة كلهم الذين وافقوا والذين اعترضوا على أن الزمن ليس ساعات وأيام حيادية تمضي هكذا وإنما هي وعاء تنعكس فيه المنجزات الثقافية والحضارية التي يصبغ بها الإنسان صفحات التاريخ، بل وهو التجسيد الحقيقي لما يقوم به الإنسان سواءً كان ذلك تقليداً أو إبداعاً، ألا ترى معي أخي الكريم أن الناس إلى اليوم وهم في صراع على «تحقيب» و«إعادة تحقيب» مامضى من السنين والقرون فنحن المسلمين عندما نتكلم عن العصور الزاهرة لحضارتنا نجد الغرب يسميها «القرون الوسطى المظلمة» وكثيراً مانردد هذه العبارة بدون وعي فكان صادقاً وكنا كاذبين، والسبب في ذلك راجع إلى كوننا نتبنى رؤيته الكونية للزمان والمكان فإذا قال «الشرق الأوسط» رددنا قوله وحتى الذي يسكن الشام يقولها عن نفسه وكأنه يتكلم من بريطانيا أو أمريكا والماليزيون بلغتهم يقولون «آسيا بارت» أي آسيا الغربية ولكن عندما يترجمونها إلى الانجليزية يقول midle- east وحتى العرب أصبحوا يقولون «فلسطين» وبالإنجليزية يقولون israel وغيرها من مظاهر انشطار الوعي الذي يعقبه الانشطار العاطفي والفكري وهكذا نصوم ونعيد ونحج ونتسلم رواتبنا وفقاً للتقويم الغربي المسيحي ولانتذكر الشهور القمرية التي جعلها الله عزوجل مجالاً لكثير من الأحكام الشرعية إلا في المناسبات من أجل أن يشتد العراك وتزداد شقة الخلاف بيننا حتى نتمنى أنها لم تكن، فبداية التاريخ الهجري يمكن أن نقول عنها باختصار أنها بداية الوعي الإسلامي بأهمية الزمن في تشكيل النوذج المتميز للحضارة الإسلامية فكان حرياً بنا أن نقف عند هذه المناسبة الجليلة.
الهجرة هي ميلاد العمران الإسلامي البديل
الزمن سنة من سنن الله عزوجل في هذا الكون وهو لايخرج عن قانون التسخير الذي حبا الله به الإنسان وجعل البشر أمامه سواسية في الاستفادة منه وعدمها وهو من عطاءات الله عزوجل «كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وماكان عطاء ربك محظوراً» وهو قدر من الأقدار نفر إليه أو منه وبالتالي علينا أن ننظر إلى اللحظات الأولى لهذا الميلاد لنتعرف على أبعاد هذه النقلة الحضارية التي ولدت مع هذا الحدث الجديد أقصد بداية التاريخ لحركة الإسلام الحضارية وبداية التشكل والبناء الحضاري ودخول المسلمين حلبة التاريخ وقد وجدنا أن هناك أبعاداً متعددة منها:
1 الهجرة والنقلة المعرفية
يقول محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» ختم النبوة معناه ميلاد العقل الاستدلالي وهكذا يضع الإسلام العقل البشري على طريق الحل النهائي للمشكلات الوجودية والحضارية معاً التي كان يعانيها الإنسان من قبل ويحدد موقعه الدقيق من عالمي الغيب والشهادة ويضعه في شروط ذهبية رائعة ليقوم بدوره الذي من أجله وجد بوصفه خليفة في الأرض، فأول مرة في تاريخ البشرية يوضع العقل على طريق «المنهج» وعلى درب «الاستدلال» و«العلم» فليس هناك من دعوى إلا ويجب إقامة الدليل عليها حتى قال ابن تيمية «الرجل بالدليل ومن ليس له دليل فقد ضل السبيل» لقد أبدع الإنسان المعاصر في العلوم الكونية أيما إبداع ولكن نراه اليوم يزداد معاناة بسبب فوضى وضبابية ميتافيزيقا هذه العلوم حتى تمنى صاحبا كتاب «العلم في منظوره الجديد» من العلماء أن يرجعوا إلى مرحلة ماقبل العلم للخروج من المشكلات التي أفرزها العلم والتي تفوق مشكلات ماقبل ظهوره وبالمقابل رغم أن الوحي حرر العقل المسلم من الخرافات والأهواء في ممارساته المعرفية فكان المسلمون أول من فصل علم الكيمياء مثلاً عن السحر والطلاسم وكذلك أول من فصل علم الفلك عن التنجيم بسبب الروح الاستدلالية القوية والنزعة الموضوعية التي غرسها فيهم القرآن، ولكن للأسف الشديد ذلك لم يدم طويلاً وذلك تم إهمال «العلوم المتعلقة بالإنسان» والاهتمام المبالغ فيه بالعلوم المتعلقة بالغيب كالألوهية وإضاعة جهود العقل فيها رغم أن الوحي قد كفانا ذلك إلى أن أذنت الأقدار بأفول شمس الإبداع الحضاري لدى المسلمين وسقطوا في عدمية قاتلة كتلك التي كان عليها أهل الجاهلية قبل مجيء الإسلام، والغربيون سقطوا في عدمية ماقبل العلم فكيف يمكن أن نفكر اليوم في التفوق العلمي وكذلك إعادة ربط هذا العلم بأهداف ومقاصد لصالح أمتنا والإنسانية جمعاء؟ إن نموذج المجتمع في المدينة الذي تأسس بعد الهجرة النبوية ليضعنا على الطريق.
2 الهجرة والنقلة الأخلاقية
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ولم يأت ليعمل قطيعة حدية وصارمة مع ماكانت عليه العرب زمن جاهليتهم في هذا المجال لأن البيئة التي كانوا فيها كانت تتوفر على قدر كبير من النقاء الفطري والخلقي بسبب أنهم لم يجربوا فلسفة من قبل تلوث عقولهم وإنما الذي كان هو بقايا الحنيفية التي كان يكتنفها كثير من الغموض حتى بدأت أنفار من قريش تجلب أصناماً من أطراف الجزيرة حينا ويعتنق بعضها المسيحية أو اليهودية حيناً آخر، ولئن كان البيت مصدر الأمن من الجوع والخوف ومحور الاجتماع إلا أن هذا لم يكن كافياً ومع مجيء الدين الجديد مع النبي الجديد لم يستطع أهل هذه البلدة أن يحولوا الإسلام إلى نموذج اجتماعي وبذلك كانت الهجرة فكيف كانت الهجرة نقلة في مجال الأخلاق؟ورد في كثير من الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عد الهجرة من الواجبات والتراجع عنها يعد من الكبائر ومن تلك الآثار ماأورده الطبري حيث قال: حدثني تميم بن المنتصر قال ثنا يزيد قال أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر فقال ياأيها الناس إن الكبائر سبع فأصاخ الناس فأعادها ثلاث مرات ثم قال ألا تسألوني عنها قالوا ياأمير المؤمنين ماهي قال الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة فقلت لأبي ياأبت التعرب بعد الهجرة كيف لحق ههنا فقال يابني وماأعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابياً كما كان وفي رواية والمرتد أعرابياً بعد هجرته لقوله تعالى ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) «محمد/25» وحتى سياق الآيات بعد هذه يوحي بأن ذلك من خصال المنافقين فلماذا هذا التشديد في أمر الهجرة وجعلها من الواجبات ولماذا الوعيد لمن يتراجع بعد هجرته؟ الأمر كما يبدو لي يرجع إلى أن الإسلام جاء بنظام قيمي اجتماعي وتبليغه يجب أن يتم في ظرف قياسي جداً ولو ترك العرب البدو وماهم عليه من التششت في البوادي لما أمكنهم أن يحولوا هذه القيم إلى نظام اجتماعي حي فيه من التعقد مايجعله نموذجاً لما بعده من الناس وماحوله من المجتمعات والحضارات ولذلك انتبه الإمام مالك بعبقريته التجريدية إلى جعل عمل أهل المدينة من أدلته التي يقدمها على أخبار الآحاد، صحيح أن الخبر قد يحمل معه قيمة أو حكما ولكن «العمل» هو «نموذج» يحمل في طياته شبكة من القيم المترابطة فيما بينها وهذا الذي حمل الإمام مالك أن يختصر الموطأ من أكثر من 30 مجلداً إلى مجلد واحد حتى عاب عنه ابن عبدالبر ذلك، لأن أمر القيم ليس في كونها غير موجودة ولكن في كيفية تطبيقها فكل البشر يعرفون العدل والحرية والإحسان بل وكل يدعي أن مايفكر فيه هو أن يجعل البشر يسعدون بهذه القيم حتى إذا جئنا إلى الواقع نجد الأزمات والمعانات والمآسي فكان من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ وليس مجرد تبليغ ولكن بلاغاً مبيناً أي متحققاً ومجسداً في الواقع يعيشه الناس، واستكمالاً لحلقات البيان هو أن تكون هناك المعايشة الواقعية والتطبيق العملي بل وليس الأمر كذلك فقط وإنما جرد الهجرة في المكان وجردها في الزمان فقال صلى الله عليه وسله «لاتعرب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح» فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى مطلقاً للهجرة من «مكان إلى مكان» لتصبح الهجرة «من حال إلى حال» في أي مكان وأي زمان وهذا ماسار عليه علماء الأمة في تقرير مسائل العقيدة تربوياً فقد كتب ابن تيمية كتاب « الحسنة والسيئة» وجعل من هذا قاعدة تتبع في كل سلوك وتصرف فمن اكتسب سيئة أتبعها حسنة تمحها كما في قوله صلى الله عليه وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» وكذلك اتباع قدر الجوع بالشبع وذلك بالأكل ومنه أيضاً «اتباع قدر التخلف بالتحضر» و«قدر الجهل بالعلم» ولايزال الإنسان مهاجراً مااتبع هذا القانون ومازال الإنسان مرتداً في التخلف ومتعرباً ماانتكس في المعاصي والتقصير والجهل والأمية.
3 الهجرة نقلة اجتماعية
لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى «يثرب» وسماها المدينة المنورة وأول ملاحظة يمكننا أن نلاحظها من زاوية اجتماعية أن المدخل «الفردي الكمي» في الدعوة والتربية قد ولي زمانه وفسح المجال للمدخل «الجماعي النوعي» فبعد أن كان المسلمون يمارسون صلاتهم مستخفين وفرادي أصبحوا يمارسونها في مؤسسة خاصة بذلك هي المسجد وبشكل علني وجماعي وبعد أن كانوا يعيشون فرادى منعزلين عن التأثير في مجريات الواقع من تجارة وزراعة وغيرها فهاهم في المدينة يمارسون ذلك على أوسع نطاق في ضوء توجيهات الوحي والمطلوب منهم طلباً جازماً أن يحققوا «الكفاية» للمجتمع الناشيء بل وهناك حرم التعامل بالربا والغش في البيع والتطفيف في الميزان وغيرها من الممنوعات في المجال الاقتصادي كما حرم كل أنواع الزواج التي تبيحها العرب في جاهليتها ولم يبق إلا زواج اليوم هذا في المجال الاجتماعي وآخي بين المهاجرين والأنصار وانتصب الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً بين الناس في نزاعاتهم ومرشداً لهم في تصرفاتهم وقدوة لهم في سلوكهم ومرجعاً لهم في علومهم وقائداً لهم في شؤون سياستهم وغيرها من القضايا التي تشكل بمجموعها نظاماً اجتماعياً سمي ب «المجتمع المديني » أخذت فيه كل قيمة خلقية وكل قاعدة قانونية سيرها ومسارها وموقعها في حياة الناس فلما اكتمل الدين ليس فقط في الكتاب بوصفه وحيا وإنما في الواقع أيضاً كنموذج للحياة الطيبة وكمنهاج للحضارة فيما بعد وذلك بفضل بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذه الأسباب كان الرسول صلى الله عليه وسلم متشدداً في أمر الهجرة في بداية الأمر حتى يكون كل فرد من المسلمين لبنة صالحة في هذا البناء والنموذج المجتمعي الجديد الفريد.
4 الرأسمال الزمني وكيف نفكر فيه
كانت أكبر مشكلة تواجه العرب قبل الإسلام هي مشكلة التعامل مع الزمن فقد كانوا دهريين بمعنى الكلمة ترى ذلك في شعر كثير من فطاحلة شعرائهم فهذا تأبط شرا يقول:
بزني الدهر وكان غشوما بأبي جاره ومايذل
وقد ذكر القرآن الكريم نموذجاً من أقوالهم واعتقادهم في الزمن ( وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ومايهلكنا إلا الدهر) «الجاثية 23».
وينسبون إلى الدهر كل مايسؤوهم كقولهم «صروف الدهر» «وبنات الدهر» وغيرها حتى أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:« لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» والمقصود بهذا الحديث أن الذي تسبه العرب في جاهليتها وتنسب إليه مايلحقهم من الشر إنما هو الله الذي قدر لهم ذلك وهو الذي خلق الدهر، ولكن هذا لايعني أن الزمن قد تم تحديد ماهيته من طرف أي من المتخصصين في أي مجال من المجالات العلمية وأذكر يوماً أن الدكتور جمال البرزنجي المدير التنفيذي للمعهد العالمي ذكر أن الجمعية العالمية لدراسات الزمن في امريكا اتصل بهم وطلب منهم أن يفيدهم ببعض مايقوله الإسلام عن الزمن أو ماهو الزمن في الإسلام؟ ولكن قبل أن أسمع الجواب انصرفت لطارئ وبقي السؤال يشغلني مدة طويلة حتى عثرت على كتاب في هذا الشأن وعنوانه «الحروب على الزمن time wars وقد قدم لهذا الكتاب مؤسس الجمعية السابقة الذكر ولكن صاحب الكتاب لم يدخل في جدل الفلاسفة بخصوص هذا الأمر وإنما فضل أن يتناوله من زوايا الثقافة والانتروبولوجيا وسياسات إدارة الزمن ليخلص أن التفوق الثقافي والحضاري يرجع بالدرجة الأولى إلى استثمار الزمن في الإنجاز معتبراً إياه «كعكة» في مأدبة للجائعين وعلى هذا الأساس كان إقبال في محاولاته تعريف الزمن وتحديده ودخوله في مساجلات مع الفلاسفة الغربيين في ذلك تضييع للوقت نفسه، وقد نبهنا القرآن الكريم إلى أنه وحدات نسبية بالنسبة للإنسان بينما عنده كيوم واحد فيذكر مثلاً «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» وفي آية أخرى «في يوم كان مقداره ألف سنة» و« لا اقسم بيوم القيامة» وغيرها واعطانا اسماً آخر للزمن القابل للاستخدام والاستثمار وهو الوقت وجعل لنا مقاييس لقياسه وضبطه فقال عن القمر «وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب» يونس 10 وقال في الصلاة ( إن الصلاة كانت على المؤمين كتاباً موقوتاً) والمطلوب منا اليوم هو توقيت كل أنشطتنا وتصرفاتنا وتحركنا فكل من لم يدخل الزمن في «مشاريعه» و«استراتيجياته» سيجد نفسه دائماً يراوح مكانه بل لابد علينا نقتنص «اللحظة التاريخية» لعمل انجاز ما كما قال أستاذنا الشيخ الطيب برغوث في إحدى محاضراته بهذا العنوان.
فنحن اليوم في مرحلة من الحضارة تجاوز الغرب المتقدم الحساب بالساعات والدقائق والثواني بسبب النقلة التكنولوجية «عصر البايت» الذي بدأ الصراع فيه على « النانوسكند» أي الجزء المليار من الثانية.
وأهم درس نستخلصه من هذه الذكرى الشريف هو الدعوة إلى النظر في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في استثمار إنشاء الزمن الحضاري الإسلامي وكيف استثمر الزمن بشكل إعجازي فقد أسس المجتمع والدولة والحضارة في 23 سنة فقط بينما نجد حركات إسلامية يتجاوز عمرها السبعين سنة وهي لم تتجاوز عقدها الداخلية فضلاً عن أن تكون جزء من الحل الإسلامي الذي تدعيه.
والله أعلم بالصواب. عن" الشهاب "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.