للمرة الثالثة والأخيرة نواصل الحديث عن فيلم ميل جيبسون وسنرى أن المخرج يعود بنا إلى حضارة المايان التي كانت في القارة الأمريكية قبل وصول المستعمرين البيض، وكعادته لا يستعيد المخرج فقط صروح تلك الحضارة وأنساق بنائها ونمط حياة سكانها، بل أيضا صراع الخير والشر فيها، مع حرص شديد على توثيق الشواهد والمشاهد بطريقة مُمْعنة تستدل بالقرائن المادية، والأُحفورية والمعلوماتية، وبالآداب المنقولة كتابة وشفاهةً ،وصولاً إلى استدعاء لغة المايان الموشكة على الانقراض، تماماً كما أحيا اللغة الآرامية في فيلم آلام المسيح . هذا المنهج غير المسبوق في إعادة انتاج التاريخ كما كان، يُدلل على مدى دقة المخرج واستعداده لتحمل أقسى المشاق من أجل تقديم رسالة ناجزة وصورة واقعية مُحايثة لما كان، ولا يقتصر الأمر على استدعاء تلك اللغات غير المعروفة والمألوفة، بل أيضاً النصوص الشاهدة والمسطورة في المتون التاريخية التي لايختلف حولها اثنان وإلى ذلك تخلّى المخرج عن طرقات النجاح السالكة عبر الاستعانة بالوجوه الهوليوودية المعروفة، مجترحاً مأثرة جديدة في مفهوم النجاح الفني، فهو لايعتبر الاستعانة بالنجوم لازمة لا مفر منها لتحقيق النجاح، ولا يرى مبرراً للاستغناء عن اللغات التاريخية الأصلية الآرامية واللاتينية في حالة آلام المسيح ، في إشارة لمّاحة لضرورة وجبرية تعايش الثقافات الإنسانية، وباسقاط مباشر على واقع الحال اليوم. الآرامية كالعربية تماماً.. الأولى لغة عيسى عليه السلام، والثانية لغة محمد ص، واللاتينية كالايطالية تماماً. ومن تفريعات اللاتينية أبرز اللغات الأوروبية كالفرنسية والرومانية والاسبانية والبرتغالية والايطالية ايضاً، ويمكننا ملاحظة أهمية ومكانة الفرنسية والاسبانية في عالم الذاكرة والحضارة المعاصرة. نشاهد في فيلم apocalypto صراعاً مُحتدماً بين الاستباحيين المستبدين العُتاة، والخيرين الأسوياء المقيمين في الفطرة السليمة، وعند المشهد الأخير للفيلم نُفاجأ بوصول أوائل الفاتحين المُترجّلين من سفينة كريستوف كولومبيوس . القادمون البيض من وراء البحار كانوا مشهد الختام في إشارة نابهة لما سيأتي، فالعنف البدائي المُستطير الذي شاهدناه على مدى ثلاث ساعات لا يساوي قلامة ظفر أمام عنف المستعمر القادم . هل أراد ميل جيبسون التمهيد لفصل جديد من تواريخ العنف والاستباحة ؟ أو أراد الإشارة إلى أن عنف سكان أمريكا الأصليين لا يساوي شيئاً أمام ما سيفعله الأقحاح القادمون من القارة العجوز ؟