يحدقون ملياً في الآتي.. وتعمم صورته على الجميع كي يتسنى لهم معرفته قبل أن يقترب.. ملامح وجهه البعيدة.. خطواته!! .. كيفية مشيته هل هي مألوفة لديهم؟؟.. وفي بضع لحظات تأتي الإجابة.. إنه جديد على الحارة.. على الشارع.. على الحي!!.. قليلاً قليلاً يبدأون في استقباله.. في مباغتته.. في رجمه ببعض كلمات الضيافة المألوفة لدى .شباب الأرصفة!! .. يثيرونه ببعض مفردات الرصيف.. ويوجهون إليه بطاقات التعارف على طرقهم المعتادة!.. البعض يلتزم الصمت.. ليمر دون أن يعيرهم أدنى اهتمام.. والبعض يرد على مفرداتهم بأحسن منها!!.. وعندها تبدأ مراسيم بدء الحرب.. ليكون الجميع على واحد!! يقعون في شباك الفراغ.. فيرتمون على أحضان الأرصفة كفرار من كثير أشياء لم يشعروا ناحيتها بالدفء .. والعكس.. شباب هم ضحايا الكثير من الأسباب.. ضحايا الأسرة.. وضحايا المجتمع.. وعوامل أخرى متعددة!! على قارعة الأرصفة يعيشون الحاضر.. ومن ملامح المارة.. وأصوات السيارات.. يخططون للمستقبل!! شباب لايحكمهم قانون! أحد شباب الأرصفة يقول: لم أكن أتوقع ماسيؤل إليه حالي بعد سبع سنوات من العيش على الرصيف!!.. أصبحت علاقتي حميمية به.. غدا لي مأوى رائعاً.. أنثر فيه كل أوجاعي.. أحزاني .. وأرقص وأغني عليه حين أفرح!! وعن الأسباب التي جعلته يفضل الرصيف على البيت قال: في حقيقة الأمر ما واجهته في البيت جعلتني ألجأ للرصيف.. مضايقات.. وتساؤلات .. وتعكير مزاج!! لذا فأنا أصحوا إلى الشارع والرصيف.. ولا أعود إلى البيت إلا في حالات نادرة ومهمة.. أقصد حالات طارئة «يقولها ضاحكاً» وأردف حديثه مثل النوم.. وأشياء أخرى. عما يحدث على رصيف الطرقات يقول شاب آخر:«بالنسبة للرصيف لاشيء يحكمه .. وما نفعله نحن الشباب هو نتاج طبيعي لما نحس به في اطار الأسرة.. فتجدنا نضايق هذا ونسُّب هذا .. ونعكر مزاج أهل الحارة.. وهو قضاء لما يمارس ضدنا. نحن لم ننعم بأي شيء.. ولم نجد من يفهمنا .. لذا نلجأ لبعضنا مكونين شللاً تفهم نفسها جيداً .. شباباً تجمعهم المعاناة وتفرقهم المعاناة أيضاً.. ينثرون على الرصيف كل آلامهم.. أحلامهم.. يفترشونها لإنهم يجدون دفئاً وحرارة فيها.. وقد أصبحنا جزءاً منها.. وهي جزء منا.. فنحن لها حين نسافر أو نرحل.. نحن لمن جمعنا الرصيف بهم.. وصدقني أنني أحنَّ لها أكثر مما أحنَّ لأسرتي. لقد فقدنا الكثير شاب آخر يقول: صحيح أننا فقدنا كثيراً من الأشياء نتيجة جلوسنا على الرصيف.. مثل اهمالنا الدراسي .. فقدنا كثيراً من أخلاقنا .. بالإضافة إلى بعض الممارسات التي كنا نرتكبها!!.. كلها أثرت في شخصيتنا .. ويتساءل بحرارة وندم ولكن ماالعمل؟ هكذا أرادوا لنا أن نكون! سألته من يقصد أجاب:«الأسر حقنا».. وأيضاً «بعض عيال الحرام!» من جانبه يقول:محمد علي «لقد عشت فترة كبيرة من عمري على الرصيف .. لذا فقد تأثرت كثيراً بأخلاقيات أصحابه وقاطنية.. أصبحت كما هم تماماً.. لايهمني شيئاً ولا أعير أحداً اهتماماً.. غدوت أسير كما يحلو لي .. وأعيش حياتي بالطول والعرض.. ويرجع السبب بدوره إلى نفسه فقط، محملاً أبيه جزءاً من ذلك، وبالأخص قساوة أبيه التي جعلته يلجأ إلى الرصيف كملجأ اجباري وحتمي عليه. شباب غير مرغوب فيه ويقول الشاب وسيم قاسم:الرصيف بالنسبة لي له آلاف الحكايات .. فقد عشت عليه لدرجة أنني لم أكد أفرق بينه ومنزل والدي .. لقد عانيت كثيراً قبل الرصيف لقد أصبح علامة فارقة في حياتي..أؤرخ لها قبل/بعد أعني قبل حياة الرصيف وبعدها!! ويرجع السبب إلى أسرته التي عانى كثيراً حين كان يجد نفسه وحيداً داخل الأسرة.. منزوياً بعيداً.. قائلاً:غالباً ماكان يراودني شعور بإني شاب غير مرغوب فيه في وسط الأسرة.. وكنت ألمح نظرات الازدراء وكلمات التنقيص في حقي من قبل الجميع في الأسرة.. مما حدا بي إلى الرصيف بعد أن وجدت أن ليس بمقدورهم أن يفهموني ولا أفهمهم.. حياة مغامرات وعن حياته في الرصيف يقول: لقد عشت حياة كلها مغامرات حياة حقيقية وحلوة.. ومازلت أعيشها إلى اليوم.. مؤكداً على أن ذلك هو قدره.. وكيف الواحد يفر من قدره! تجربة مريرة شاب غادر الرصيف بعد تجربة مريرة خاضها على حد قوله، مضيفاً :بإن الرصيف وحياة الشارع التي عاشها في فترة سابقة أكسبته فقط الوقاحة والسلوكيات اللأخلاقية.. وكنت في تلك الفترة لا أعود إلى البيت إلا بالكثير من الشكاوى.. والكثير من الدم.. وبالكثير من الجروح والخدوش نتيجة المعارك التي كنت أقودها، وقد كنت أزعج كثيراً أسرتي بذلك.. وقد سببت لهم الكثير من الازعاج بسبب ذلك. شاب من الرصيف يقول: بالنسبة لي ولأصدقائي فقد كنا ومازلنا «نحانب» كل شخص جديد على حارتنا.. وبالذات من نراه متبختراً .. «وشائف نفسه» .. نرميه ببعض الكلمات ومن ثم ندخل معه في شد وجذب لنصل في الأخير إلى «مضرابي» حامي الوطيس، جميعنا يهب ليلطش له لطمة أو زبطة أو دكمة!!. ثمة الكثير من الحكايا التي تنبثق من الأرصفة.. شباب يعيشون حياتهم كما حلموا بها أول مرة.. حياة بعيدة عن التساؤل والجواب .. وبعيداً عن الهموم التي تثقل كاهل بعض الشباب.. الرصيف غدا ملجأ محبباً لكثير شباب وجدوا أنفسهم بين خيارين الرصيف أو المعاناة.. وفي كلتا الحالتين تكون المعاناة حيث الرصيف متجرد من كل شيء.. ويجرد أيضاً الشباب من كثير أشياء جميلة. للرصيف حكاية طويلة.. حكاية أخرى .. وحكاية أكثر ألماً.. وحيرة .. مغامرات تكسب طابع استمراريتها من طابع المكان الذي تولد عليه.. ومن وجوه الناس .. الشباب .. العجائز ..الإناث .. تأتي المغامرة بشكلها المناسب.. وبحجمها أيضاً. التربية أولاً!! يقول أحد أولياء الأمور: هؤلاء شباب مافيش من يربيهم، وإلا كيف بالله عليك من صبح الله إلى الليل وهم في الشارع.. ماعندهمش آباء يسألوا عنهم ولا عندهم أمهات ولابيوت يقعدوا فيهن.. يارجل أصبح الشباب بلا هم لهم سوى مراقبة من سيأتي ومن سيروح .. حرام هذا العبث كله!! .. ويرجع السبب إلى عدم وجود تربية حقيقية من قبل أولياء أمورهم. ويتفق معه حميد علي ولي أمر آخر مضيفاً بإن الشباب يجد راحته في الشارع لذا كل محاولات الآباء تبوء بالفشل.. وتصطدم بإرادة الشباب، ولاتنسى أنه من الصعب التحكم بالشباب وبالذات في سن المراهقة.. فهم يحاولون قدر استطاعتهم التحرر من قيود التبعية.. وتقليد الكبار في تصرفاتهم. ربنا يخارج!! رمزي قاسم شاب يقول:للرصيف بالنسبة لي الكثير من الذكريات.. فمثلاً قد عيدت فيه.. بعد أن أقسمت مع بعض الأصدقاء على أننا لانذهب إلى بيوتنا ليلة العيد.. فما كان منا إلا أن قعدنا حتى شروق شمس العيد وهذه القصة حدثت في العام الماضي ان لم تخني الذاكرة.. وعن تكرار ذلك هذا العام.. قال :إذا كانت الأجواء مناسبة فلا مانع من التكرار، فقد ذكرها بالكثير من الفرح مثل ماهو حاصل الآن تماماً.. وهو بدوره يرجع سبب لجوئه إلى الرصيف قصة الخلاف التي حدثت بين أبيه وأمه.. مما حدا به للبحث عن مكان هادئ ومريح.. فوجد الرصيف مكاناً مناسباً لذلك.. إلا أنه ليس على درجة كبيرة من الهدوء.. فنحن كل يوم في مشكلة.. وربنا يخارج!! حرمان وضرب شاب آخر رفض الادلاء باسمه قال: لم أكن بحاجة للرصيف لو أن أبي وأمي لم ينفصلا فهما السبب في لجوئي المفاجئ إلى الشارع حتى غدا لي بيتاً يأويني وكثيراً من أصدقائي الذي غدوا أسرتي.. مضيفاً بإنه عاش أتعس أيام حياته على الرصيف.. وقد تعرض للكثير من المضايقات والإيذاء والضرب.. وذاق مرارة الحرمان والقساوة.. في بداية جلوسه على الرصيف حين كان لايعرف أحداً.. أما اليوم فقد أصبح له صيتاً يملأ الارجاء.. وأصبح اسمه يتردد في الحارة.. وكثير من الحارات المجاورة. أين البديل؟ شاب آخر يقول: أين نذهب .. أين نروح؟.. لا متنزهات .. ولاحدائق .. ولامكتبات عامة حتى للاطلاع.. الرصيف هو الخيار أمامنا وجدنا فيه مالم نجده في حياتنا. فنحن نمارس عليه كل طيشنا.. مشاغباتنا أيضاً.. وصدقني أنني لوكنت وجدت ما ألجأ إليه غير الرصيف لفعلت ذلك.. فالرصيف لم يكسبنا أي شيء.. عدى أنه أخذ منا الكثير.. فقد تعلمنا فيه كثيراً عادات سيئة.. جيل بمقدوره المواجه ويتفق معه الشاب كمال ناجي مضيفاً بإن الشباب بحاجة لمن يوفر لهم أشياء على الرقي بهم .. تنتشلهم من الواقع الذي يعيشوه.. تنمي فيهم التفكير.. وحس المطالعة والقراءة لإنتاج جيل بمقدوره مواجهة التحديات القادمة. الفراغ الثقافي الكاتب/أحمد شوقي أحمد بدوره يتحدث عن أسباب هذه الظاهرة قائلاً: لايمكن فصل هذا عن حالة مجتمعية عامة: الفراغ ،المشاكل الأسرية، الرفقة، هناك الكثير من الاسباب، لكن السبب الأول وهو الأهم، وجود فراغ ثقافي ومعرفي هو مايجعل بعض الشباب في حالة من الخواء العقلي الذي أصلاً يدفعهم لشغل هذه المساحة الفارغة من حياتهم بالجلوس على الأرصفة، ولو أن هناك حراكاً ثقافياً ومعرفياً وعقلياً يستقطب هؤلاء الشباب ويحاول سحبهم من مشاكل الأسرة والمشاكل الخاصة بهم إلى المعرفة والعطاء الإبداعي واستغلال مواهبهم وإبداعاتهم وطاقاتهم لما قضوا أوقاتهم بهذا الشكل، لكن غياب برامج الاستثمار،وكذلك وجود نسبة عالية من البطالة والفراغ كما أسلفت هو السبب الأهم والرئيسي.