من المؤسف أن القوى العاملة في الحقل الإسلامي لاينتهي لها خلاف،ولاتؤذن أحوالها بوحدة قريبة،مع أن الخصوم ارتفعوا فوق منازعاتهم،ويحسنون نسيانها في مواجهة أية محنة. وأحسب أن فقر المعرفة وراء هذه الفرقة،فهناك غوغاء لايرون من تعاليم الإسلام إلا نتفاً يسيرة ثم يُغالون بما عرفوا على تفاهته ،ويحقرون ماجهلوا على نفاسته،وينطلقون في الدنيا مخربين،لامعمرين ،ومفرقين لامجمعين..وفقر المعرفة وراء جملة من الرذائل المخوفة،ووراء صدوع عانت منها الأمة قديماً وحديثاً. وقد رأيت البعض يغالي بأمورٍ لاتساوي شيئاً،فقلت له: ماتغالي به هو ماقال فيه العلماء:جهل لايضر وعلم لاينفع!!إنكم تقدمون النوافل على الأركان،وتهتمون بما لايضير فقدانه الدين والدنيا. ومع ضآلة العلم تنمو التوافه،وتذكرت ماحكاه «ديل كارنيجي» عن نبيل فرنسي حكم عليه بالموت تحت المقصلة أيام الثورة الفرنسية،فقد قال قبيل تنفيذ الحكم: إن في صفحة عنقي دملاً أرجو أن تتجاوزه المقصلة عند التنفيذ لأنه يوجعني !!» إنك مائت على أي حال،فما قيمة أن يصيب السكين الدمل أو يتجاوزه؟! لكن في الدنيا ناس يتحدثون بما يتوهمون فقط! وقد رأيت كثيراً من الإسلاميين يصدرون أحكامهم على هذا النحو،لأنه ينقصهم النظر الصائب والحكم السديد.. قال أحدهم لي وقد لبس جلباباً يشبه القميص: إن الثوب الطويل في النار،فقلت له: كان بعض الأمراء يجرون وراءهم ثيابهم كبراً فنهى الإسلام عن ذلك،ليس كل من يسبل إزاره كما وصفت! فتميز غيظاً،وقال: أنت تحارب السنة!...ولم أشأ الاستمرار في الحوار،فإن من أجداد هؤلاء من قتل علي بن أبي طالب حتى يصلح حال الأمة بمصرعه..!!مصيبة هؤلاء أن نظرهم إلى الأمور نابع من طباع معتلة،لا من معرفة صادقة ،وغرورهم بما لديهم لايطاق. وعلاج هؤلاء يكون بأمداد من العلوم التجريبية والرياضية والإنسانية علها تشفيهم من العاهة التي آذتهم وآذت الإسلام بهم..إن عطباً حقيقياً لحق بمواهبهم البشرية، ولابد من إصلاح هذا العطب أولاً، وإلا فسيتعلمون بعض القشور ثم ينكرون غزو الفضاء،ويقاومون حركات الإصلاح،ويعترضون مسيرة الراشدين باسم الدين! لا أعرف نظاماً قبل الاجتهاد الخطأ وأثاب عليه إلا الإسلام،ومع ذلك فمن العاملين للإسلام من تقدح عينه بالشرر إذا رآك تقلد أبا حنيفة وتترك ابن حنبل! ياأخي إن رب الدين أثاب هذا المخطئ في نظرك ،فلماذا تحقره وتعزره؟أأنت أغير على الدين من ربه؟!..والأوغل في الشرود أن ينظر هؤلاء إلى الدواهي ويسكتوا.. وقريب من آفة فقر المعرفة، ضيق دائرة العمل الصالح!..مع أنه في عشرات الآيات نلحظ اقتران الإيمان بالعمل الصالح،وأنهما معاً طريق النجاة،فما العمل الصالح؟إنه كل شيء يدفع إليه الإيمان،أو يخدم حقائق الإيمان،أو يدعم جمهور المؤمنين!! إن الصلاة والصيام من الأعمال الصالحة،وليسا كل العمل الصالح،ليست للعمل الصالح صور محددة،أو إحصاء ثابت،إلا ماجاء الشارع الحكيم بنماذج محددة كهيئات الصلاة ومناسك الحج وما أشبه ذلك..أما الجهاد ففنون فوق الحصر لاتضبطها صور،وكذلك دائرة العلم والتعلم،وأنواع الحرف التي تقوم بها الدنيا. ولا قيام لدين فقد ديناه،وتجمدت أجهزته التي يحيا بها...وتدبر قول الله لداؤود عليه السلام:«وألنا له الحديد أن اعمل سابغاتٍ وقدر في السرد واعملوا صالحاً»..إنها الصناعات الحربية الدقيقة،صارت عملاً صالحاً ،لأنها في يد نبي من أنبياء الله لن تكون أداةً للعدوان،وإنما تكون للدفاع عن الحق. وقد فهم أحد الناس أن العبادة انقطاع للصلاة والذكر،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :من يقوم بالرجل؟قالوا:كلنا! قال: كلكم أعبد منه !!. يستحيل أن ينتصر دين لا دنيا له،ولاصناعة،ولاحضارة ولا اقتصاد ولا إدارة،ولاسياسة ولاهيمنة!..والتبريز في هذه الساحات كلها من صلب العمل الصالح،فمن تراخى أو تخلف فلا يلومن إلا نفسه. الإسلام فطرة تأبى التكلف ،والإيمان دراسة للكون تورث معرفة الله،والجهاد عملٌ في الكون لإعلاء كلمة الله،والأرض كلها محراب لمن شاء أن يعبد ويقترب ،ولعل ذلك بعض ما يفيده الحديث الشريف:«جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».