استيقظتُ على صوتِ المدينة النائمة في قلبي ، وطرقاتها التي كانت محاصرةً بالعسكر ، ومفتشي القلوب عن أسرارها التي لا تنام ، وبائعي الكعك في الحارات الضيقة ..مازالت أذكر أصواتهم ، تحملها إليّ الريح ، والشبابيكُ العالية التي تُفتح وتُغلق على أحلامها ، كل يوم تذروها مع شروق الشمس وفي المساء تلملمها مع العربات ،التي تعود محملة بالخيبات والأسى، حيث الأحلام شهيدة في كفن الخيبات. كانت ومازالت الطرقاتُ هي نفسها ، الأساس لم يتغير ، فقط الواجهات ، كما وجوه الناس، تحملُ مساحيقَ من مكر الأيام أو من قسوتها أو من لعنتها . لن أزيد في قسوتي عليهم، أنا واحدة منهم . ولم تكن نوافذي عالية ولكن الهواء كان يدخل إليها . كما يدخل ،إلى بيتِ قلبي، داخل قفصه. مدينة نائمة في القلب ، لماذا تفتحين دائما نوافذك على هذا المحيط الذي هو أنا ؟مدينة أتعثر بشوارعها الضيقة ، والعريضة منها . في شوارع الحدادين ومطارقهم النارية . في شوارع الحدادين، كان الرعب يقتلني ، أتلفتٌ خفية ، يمنة ، ويسرة ، خوفاً من أن يتربص بي شررٌ ما . أتذكر ذلك الشررَ الذي يتطاير من تحت سنادينهم ، كانوا يقتلون أيامهم، ويحرقون الخيبات في أجسادهم، التي أكلها الشرر المتطاير ،من أحداقهم . مدينة مفتوحة على الغياب ، كان بها قلبي ، وهي الآن في قلبي ، كل منا يحب الآخرَ ويعذبه ، في طرقاتها زرعتُ كلَّ أحلامي ، وكانت كلُّ حدائقها في قلبي ، كلُّ يوم أسقيها بندى الحلم ..لماذا تظهرين اليوم . في هذا المحيط العائم ، الغائم في كل الأحوال ، وقاربٌ صغير يجدفُ إليكِ ، وأنتِ تخرجين منذورةً لي ، كامرأةٍ ترتعد من الحب والذكريات ، وشوارعكِ في قلبي ما زالت تخفق . يا أيها الناسي ، يا أيها المتناسي ، يا أيها الباكي ، يا أيها الراحل الغادي ، يا من وقع أقدامكَ محفورة في عمق ذاتي ..في شرفاتٍ عاليةٍ وحدائق تسورُ البيوت ، كنتُ أمعن النظر، كيف تلاصقت البيوت ، جنباً إلى جنب ، صفاً إلى صف ، وامرأة إلى امرأة تسرد الأسرارَ، كما صمت الليل ..كنتُ امرأة تخرج من خوفها بلا عباءة . تفتح صدرها للريح . وقدميها للأفق وتعلن باسم اللاخوف . أنا امرأة من ملوحة الأيام جُبلتُ ، في رحيق الورد اختبأتُ ، وفي ساعة الفيض جئتُ، وفي خوفِ الزمن ولدتُ ، وعلى أبوابِ الأنهار توضأت ، مغسولة من كل الآثام ، إلا من إثم الحب ..في قلبي تذوب العناصر وتتّحد بحبي إليكِ ، وأغزلُ لكِ من عباءةِ أوردتي خيوطاً تصلُ إليكِ وتخفق باسمك ، وفي بحيراتِ العشق ، ساعة يخرج النبض متدفقاً بدمه ، أغسلكِ من كل الأوثان والأدران، وغبار الزمن ، وأمد إليكِ قامة تصلكِ ولا تصليها من الحنين والموت . كلهم عابرون كلهم مروا من هنا ، إلا حنيني إليك ، كان يشبه الأسماك التي تنام في شباك الصيادين سارقي الأضواء في صمت البحر ، وحدهم كانوا يسرقون صمتَ ليلك ، وكيف تذوب العناصر في جسدي بملوحةِ أيامك وأبقى أحبكَ ، بدون حساب وبدون أرصدة ، وبدون أقنعة..في قلبِ كل سمكة كبيرة ، سمكه صغيرة ، تلك هي قوانين الليل والنهار كل منهما متصلٌ بالآخر وكل منهما منفصلٌ عن الآخر ، وكلاهما لا يتشابهان واحد غارق في الضوء وواحد غارق في الظلام ، ونبقى أنا وأنت كما الليل والنهار، وكما اتحاد العناصر وذوبانها في قلب الأشياء ..وفي مودةٍ لك مني لا تحمل الشك ، أفتح لك أبواب أسراري لتخرج إليك عارية كما قلبي الذي شهدته أول مرة ، ومازال يعيش في البياض ، حيث انبهار الضوء بذاته ، وغرقه في أنا السطوع ، حيث كل شيء أمامه يظهر جلياً واضحاً كما حبي الذي يتسرب إليك في أوردة الأنهار عند فيضانها بفيض الحب ..في التفاصيل البعيدة ، القريبة ، في انبهار الذات بحواسها الخمسة وانفلات الروح في أفق السادسة أراك وأعبر الأثير إليك ، بكل الكلام وبساطة المعنى وغموض الأسئلة أسأل عنك ، أفتش في جسد الحواس عن طريق إليك وكل يوم أجلس على باب انتظاري أرقبك تأتين إليَّ لتمنحيني الذي لم تمنحن إياه ، وطال انتظاري وأنا على يقين بأنني الغيم الذي يهبط إليكِ وستبقين النهر الذي لن يصل إليّ .