قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن وأهل اليمن
أربعون زيارة وألف حكاية ورواية
نشر في الجمهورية يوم 03 - 08 - 2008


الحلقة44
أركنها الفقيه
سمعت عن اسم السيدة عزيزة عبد الله لأول مرة في القاهرة قبيل اندلاع ثورة 26 سبتمبر عام 1962 بنحو شهرين في منزل القاضي الشاعر محمد محمود الزبيري أبو الأحرار اليمنيين طيب الله ثراه ، وكنت آنذاك على صلة صحفية حميمة به ورموز غيره من قادة المعارضة اليمنية وبينهم الاستاذ أحمد النعمان والاستاذ محسن العيني ممثل اليمن آنذاك فى اتحاد العمال العرب وعدد آخر من الطلبة اليمنيين الذين كانوا يدرسون عهدئذ فى جامعة القاهرة والمدارس الثانوية النائية فى حلوان وطنطا وبني سويف.
اذكر في منزله الكائن بحي الدقي ان كنت في زيارته والصديقين الاديبين غالب هلسا “الأردني” ووحيد النقاش “المصري”- يرحمهما الله- عندما زف الينا الأستاذ الزبيري خبر خطبة الاستاذ محسن العيني على الانسة عزيزة عبد الله التي جاءت من اليمن مع اخيها وسكنت مع اسرته، وقدم لنا في هذه المناسبة السعيدة اكواب الشربات واطباق الزبيب واللوز ، وهو يحكي لنا امر تلك الخطبة العجيبة ، وكيف انها تمت شفاهة في عدن بين شقيقها سنان ابو لحوم ابرز مشائخ قبائل بكيل وواحد مع المع قادة حركة الاحرار الدستوريين وبين الاستاذ محسن العيني الذي كان يعمل مدرسا انذاك دون ان يرى حتى صورتها أو يلتقي بها وجها لوجه الا ليلة الزفاف التي شهدتها مع جمع غفير من النخب المصرية واليمنية!
على ان علاقتي باليمن واليمنيين سواء على الصعيد الصحفي او على الصعيد الشخصي لم تتوثق وتدوم الا بعد اندلاع الثورة السبتمبرية ، حين قدر لي السفر سريعا الى متابعة مسيرتها والكتابة عنها ، وان تتواصل العلاقة وتزداد وثوقا عبر زهاء خمسين زيارة لليمن ، وخلالها تبوأ الاستاذ محسن العيني العديد من المناصب الرفيعة في اليمن وخارج اليمن ومن هنا أسمح لنفسي – بحكم صداقتنا العائلية التي لم تنقطع أبدا – الادلاء بشهادتي عن زوجته الفاضلة السيدة عزيزة عبد الله ومشوارها في التثقيف الذاتي ، إذ شاء قدرها وقدر المرأة اليمنية إبان عهود الامامة الظلامية الانزواء في ظل الرجل ، وأن يقتصر تعليمها – وغالبا في البيت – على مبادئ القراءة والكتابة فحسب ، وربما حفظ بعض سور القرآن الكريم في احسن الاحوال ، وتلك كانت ميزة تخص بها بعض العائلات بناتها وليس كل العائلات والبنات !
على أنني عندما قرأت السيرة الذاتية للسيدة عزيزة عبد الله عبر حوار معها نشرته صحيفة “رؤى” بمناسبة صدور روايتها الاولى “احلام .. نبيلة” أدركت ان ثمة فرصة محدودة اتاحت لها قسطاً من التعليم النظامي في الصغر بمدرسة الزمر ، وكانت التلميذة الوحيدة بين تلاميذها الذكور ، وبعدها أصبح عدد البنات أربعة ، صحيح انها لم تكن مدرسة بالمعنى المتعارف عليه الآن ، لكنها كانت على أي حال افضل قليلا من كتاتيب ذلك الزمان .
ويرجع الفضل لوالدها في الخروج على تقاليد ذلك الزمان التي كانت تحرم تعليم البنات ، إذ كان من أبرز قادة القبائل الذين تعاونوا مع حركة الأحرار الدستوريين التي فجرت ثورة 1948 ، ودوره معروف في قيادة المحور الغربي في شبام كوكبان ، وظل في موقعه صامداً حتى سقطت صنعاء ، حيث أودع مع رفاقه سجن حجة الرهيب بعد فشل الثورة .
ولانه خالط قادة الثورة ومعظمهم من العلماء ورجال الدين ، واتخذ لنفسه بيتا في صنعاء كانوا يترددون عليه ويتحاورون ، لذلك كان حريصا على ان يتسلل نور العلم الذي حرم منه الى عقول أولاده وأولاد عائلته ، والى الحد الذي أباحه لابنته الوحيدة من احدى زوجاته .
وربما لولا هذا القسط من العلم ، لما كان لها ان تقرأ منشورات الثورة التي تأثرت بها كثيرا وأدركها الوعي مبكرا بمأساة اليمن من خلال كتاب “معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن” الذي تعرفت فيه على فكر كاتبه الاستاذ محسن العيني قبل ان تلتقي به وتزف اليه ، وتنفتح عبر الرفقة الزوجية المباركة على العالم وتقدمه وثقافاته ولغاته ، مما أهلها للولوج بخطى ثابتة الى مجالات العمل الاجتماعي التطوعي ، سواء في اوساط نساء المهاجرين والسلك الدبلوماسي العربي في الخارج ، وسواء داخل اليمن ، فكان تكريمها أخيراً بجائزة اتحاد نساء اليمن ، لكنها لا تزال تصبو الى ارفع وسام ، حين تتكلل جهودها الراهنة بتحويل قصر غمدان التاريخي في صنعاء من مجرد قصر للسلاح الى قصر للثقافة !
وعلى الرغم من ان مقتضيات الرفقة الزوجية فرضت عليها بالضرورة واجبات رسمية وبرتوكولية واجتماعية متباينة ، فضلا عن كونها ربة بيت ، وكذا مسئوليتها عن تربية الاولاد ورعاية الاحفاد ، إلا ان السيدة أم هيثم ظلت دوما قادرة على المواءمة بين الواجبات العامة ، وبين هواياتها واهتماماتها الخاصة .
وأشهد على سبيل المثال شغفها النهم للقراءة وتعلم الكمبيوتر واللغات الحية وما تيسر لها من الاطلاع على الأدب والشعر والفن وشتى المعارف الإنسانية ، مما كان له الفضل في إطلاق ملكاتها في التعبير عن خواطرها والكتابة في الصحف شعراً ونثراً ، فما أن اطمأنت الى ان رجع الصدى يحمل اليها بشارات القبول حتى تجرأت على اقتحام لون صعب المراس من فنون الأدب ، عندما فاجأت الجميع بنشر رواية “احلام .. نبيلة” التي نالت حظاً وافراً من النقد والتقريض ، ثم لم يمض سوى عام حتى فتحت كنوزها المخبأة وقدمت هذه الرواية “اركنها الفقيه” وفي الطريق – كما علمت – روايتها الثالثة “طيف ولاية” والرابعة “عرس الولد” .
الفقيه الدعي المنحل
والشاهد انني استمتعت كثيرا عندما قرأت “أركنها الفقيه” ووجدت فيها نضجاً فنياً ورؤية ابداعية تمثل نقلة نوعية مقارنة بروايتها الأولى ، لكنها سألتني إن كانت لدي ملاحظات على الرواية سواء من حيث الصياغة او المضمون والمعالجة ، قد يكون من المفيد تداركها قبل تقديمها الى الناشر ، وقلت لها : ان ملاحظاتي انا وغيري على الرواية الان اشبه بمن يقترح على الرسام او الموسيقي التغيير بالحذف او الاضافة او التعديل بعد اكتمال العمل، وبدوري سألتها إن كانت روايتها قد اكتملت بالفعل ام لا تزال مجرد “بروفة” ؟ فقالت : لقد اكتملت بالفعل . قلت لها : إذن الحديث عنها مؤجل الى حين طبعها ونشرها !
عندئذ فقط روت لي ما وراء سؤالها ، وكيف انها ترددت كثيرا في نشر الرواية ، بدعوى ان أحد أبطالها فقيه ، وللدين قداسته ولرجالاته الاجلال والتوقير في المجتمع اليمني منذ عرف الإسلام وشارك في فتوحاته وصنع حضارته ، ولذلك كانت خشيتها من محاولة البعض إسقاط الماضي على الحاضر ، والخيال على الواقع ، وذكرت لي انها سبق لها ان عرضت ما كتبته على شخصية يمنية لها مكانتها العلمية والدينية المرموقة وسألته ان يفتيها في امرها ، وبدوره أكد لها انه لم يجد في شخوصها وأحداثها ما يسيء الى رجال الدين من قريب او بعيد ، وإن فكرة الرواية وغايتها تكمن في تنقية الدين ورجالاته من الدجل والدجالين والدخلاء ، وإن مثل هذا الفقيه الدعي المرتزق لم يسلم منه الاسلام على مر عصوره المختلفة ولا أي دين سماوي آخر ..
كذلك عرضت الرواية على طبيب نفسي شهير أعرفه ، وسألته إن كانت لشخصية البطلة وازدوجياتها – اثر فقدانها الذاكرة – لها ما يشبهها في الحياة وليست استثناء بذاتها؟ فقال لها ان ذلك يحدث فعلا ، خاصة في ضوء ما تعرضت له البطلة من توالي الأحداث الجسيمة ، ومصارعتها للوحوش الحيوانية والإنسانية !
قلت لها : إذاً فقد حازت الرواية على ثلاث فتاوى بالاجازة ، الأولى دينية ، والثانية علمية ، والثالثة أدبية إذا جاز لي ان اعتبر نفسي أديبا كوني مجرد كاتب صحفي يهوى الأدب.
توكلي يا سيدتي إذاً على الله وادفعي بالرواية الى المطبعة ، وانتظري النتيجة بعد الامتحان ، أعني بعد النشر وليس قبل النشر .
وهنا أبانت عن سر ترددها ، فعندما أدركتها الشجاعة وقدمت الرواية الى صحيفة 26سبتمبر ، وبدأت في نشر بعض فصولها، فوجئت بمقال في إحدي الصحف اليمنية يتهمها شخصياً بالتآمر على الثورة ، بينما اتهم الرواية بالتهجم على العلم والعلماء وفقا للاسلوب الشائك “ولا تقربوا الصلاة” دون استكمال الاية الكريمة “وأنتم سكارى” ! ، ولا تعلم حتى الان لماذا توقف نشر بقية فصول الرواية ، وهل كان ذلك الاتهام السبب أم لا ، لكنها توافرت بعد ذلك على كتابتها من جديد حتى اكتملت في صورتها النهائية !
والحقيقة ان الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية ، تدحض افتراء التهجم على الثورة ، كما ان جوهر الرواية ومغزاها ، يكمن حسب تقديري في الانحياز الصريح لضرورات الثورة وحتميات قيامها فوق انقاض الكهنوتية التي سولت لبعض رموزها استباحة العقول والحقوق والأعراض باسم الدين ، والدين منها براء !
ويقيني في النهاية ان الادب والفن والسياسة والبحث العلمي خسروا كثيرا في مجتمعاتنا من جراء عوامل التخويف والإرهاب الفكري والحجر على الحريات الديمقراطية والمصادرة على المطلوب ، فالمؤلفة حين التقطت فكرة الرواية وعالجتها برؤيتها الذاتية لم تضع في حساباتها الانحياز لاي من ابطالها ولا انتقائية فضائلهم او مساوئهم ، وذلك “ان كل ابن ادم خطاء وخير الخطائين التوابون” وهذا قول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، ويقول السيد المسيح عليه السلام “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر” ، إذاً فالخطأ والصواب قدر الإنسان في كل زمان ومكان ، وغاية الحكمة الإلهية ان يتدارك الإنسان الخطأ عبر التحوط والوقاية من الوقوع في شراكه وذلك ما عنيت به الرواية وإلا لما عني القرآن الكريم بسير الظالمين الهالكين والأمم الغابرة التي تمادت في الاثام !
فإن كانت هناك ثمة كلمة حق في الكاتبة وروايتها ، فيكفيها سبق الريادة الذي لم تنتصر فيه على ذاتها فحسب ، وإنما كان انتصارها الأعم والأشمل للمرأة اليمنية وكل امرأة عربية تواقة الى التغيير واستشراف المستقبل الأفضل ، ولعل عزاءها وفرحتها معا يكمن في القبول بإبداعاتها .. سواء من النقاد والمثقفين وسواء من جمهور القراء في اليمن وخارجه ، وانها ما زالت تملك الإرادة والموهبة حتى وافقت دار الشروق القاهرية ودار النهار البيروتية على نشر روايتها الجديدة المثيرة للجدل “عرس الوالد” وهو ما يؤكد على ان قافلة التقدم والتنوير والديمقراطية في اليمن تواصل مسيرتها صوب غاياتها النبيلة ، غير آبهة بالقاعدين والمعترضين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب !
رحلة في البلاد العربية السعيدة
مع بداية زياراتي لليمن ومعرفتي الميدانية باوضاعها ، كنت كلما سألت وغيري من الصحفيين العرب والاجانب عن الدور الحديث للمرأة اليمنية بعد اندلاع الثورة ، كانوا يقدمون لنا ممرضة لا اذكر اسمها الان ، بينما كانت للمرأة شأن اخر في جنوب اليمن الذي كان منفتحاً انذاك على العالم والرازح تحت نير الاستعمار البريطاني ، ثم في ظل الحزب الاشتراكي الحاكم .. اذ كانت المرأة اليمنية تشغل العديد من المناصب حتى عضوية المجلس النيابي وتمارس مختلف المهن .
اليوم وبعد انجاز الوحدة اليمنية راحت المرأة تشق طريقها في ثقة وكفاءة وعن علم لاستعادة زخم حضارة تاريخ “العربية السعيدة” حين تربعت الملكات سدة الحكم تباعا وبينهن الملكة بلقيس في القرن العاشر قبل الميلاد ، وحتى نالت اليمن الحكم الذاتي بعد صراع طويل عام 1917 اثر الانفصال عن الحكم التركي .. وبعدها غطت المرأة في سبات عميق من التخلف والعزلة والتقاليد القاسية ، ومارست دورها كربة بيت او فلاحة او عامله او بائعة في ظل الرجل !
كانت المرأة اليمنية بائسة ومرهقة ومحرومة من نعمة التعليم فما بالكم بالترفيه على حد ما رصده الكاتب نزيه العظم في كتابه “رحلة” في بلاد العربية السعيدة ، حيث لاحظ في عيون نساء اليمن اصفرارا يشبه المصابين باليرقان ، وصحتهن معتلة للغاية ، وان بعضهن يعملن على مطحنة التمباك من طلوع الفجر حتى الظهر ، مقابل ما يسد حاجتهن للطعام المتواضع .
كانت نسبة الوفيات 80% بين الاطفال مع انتشار الاوبئة والمجاعات ، وكانت النساء المريضات يصرخن من الام المرض حتى الموت بغياب الرعاية الصحية ، وفي كتابها الشهير”كنت طبيبة في اليمن” تصف مؤلفته الفرنسية كودي فايان وضع المرأة حينها : “قد يخيل للانسان انه يستطيع ان يتصور فظاعة وشناعة كهذه ، ولكن مشاهدة هؤلاء النسوة في هذه الزرائب اكثر سوءاً من كل ما قد يخطر على البال ، لقد قرأت كما قرأ الناس اوصاف معسكرات الابادة والافناء ، ولكني هنا رأيت بأم عيني المرأة تحتضر وهي راقدة فوق برازها، رأيتها تنهض وتتناول طفلها المبلل وهي في النفس الاخير تتضرع وتتوسل !
حتى المرأة الفقيرة عندما تصل الى سن العمل ، كان مصيرها خادمة في بيوت الامراء والسادة ، واذا رفض والدها او زوجها يزج به في السجن ، وكانت المرأة مجبرة على الزواج ولم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها ، بينما تقف “العنوسة” على رأس قائمة المشكلات الاجتماعية الان في اليمن لاسباب شتى بينها المغالاة في المهور والشبكة وكلفة حفلات الزواج وهي من اهم الدوافع وراء الغربة وهجرة الرجال والعمل بالخارج للوفاء بتكاليف الزواج !
الان نستطيع الحكم الموضوعي باطمئنان الى ان المرأة اليمنية استفادت الى حد كبير من كسر الثورة لاسوار العزلة عن اليمن ، حيث اقبلت على العلم في نهم ، وشغل اعلى درجاته الجامعية كالماجستير والدكتوراه !
من الوزيرة الى الكابتن روزا
كذلك استفادت المرأة اليمنية من النهج الديمقراطي للوحدة الى حد بعيد ، حيث تشير ارقام الانتخابات التشريعية عام 1993 الى ان عدد الناخبات بلغ 478790 ناخبة ، حيث تصاعد العدد الى مليون و272.073 ناخبة في انتخابات عام 1997 وفوز 35 امرأة في الانتخابات المحلية ، ثم تضاعف العدد في انتخابات الرئاسة ، ولعله الحجة والدليل على ان المرأة اكتسبت دورها المجتمعي ، ومن كان يدور في ذهنه ان تقطع المرأة اليمنية هذا القدر من اشواط التقدم حتى اصبحت تشارك في العمل السياسي وعضوية الاحزاب ، وتبوأت اعلى مناصب القضاء والسلك الدبلوماسي ، واصبحت امة العليم السوسوة وزيرة لشئون حقوق الانسان بعدما نجحت كسفيرة لليمن في هولندا ، بل واقتحمت المرأة الميدان الثقافي والابداعي بقوة واقتدار ، والامثال كثيرة بلا حصر ولعل ذاكرتي لا تخونني حول معرفتي بالعديد من اليمنيات ممن باتت لهن أدوار بارزة في المجتمع ، وبينهن المفكرة الحضرمية ابكار السقاف ، والشاعرة هدى ابلان التي اقام لها “اتيليه” القاهرة ليلة شعرية ، وشفاء منصور مؤلفة “النافورة” التي تحكي فصلا من بطولة المقاومة الشعبية ، واعتدال ديريه وقصتها “صور من الماضي” عن الكفاح المسلح في جنوب اليمن ، ونفس الصورة والمضمون النضالي في قصة “المهمة” للاديبة افتكار منصور ، والمذيعة المتألقة فوزية الرموش التي بدأت مسيرتها في برنامج “روضة الاطفال” ونجمة الفضائية اليمنية مها البريهي ، والمذيعة مايسة ردمان ، والسيدة “الباشا” خبيرة الاستثمار بوزارة الاقتصاد والباحثة سامية الاغبري التي نالت الماجستير عن قضايا المرأة في الصحافة اليمنية ، ونبيلة الزبير مؤلفة قصة “انه جدي” التي نالت المركز الاول في مسابقة جائزة نجيب محفوظ والفنانة التشكيلية امنة النصري ، والصحفية رضية احسان الله ومصممة الازياء مها الخليدي ، ومنى باشرحيل ، والدكتورة ميرفت مجلي الاستاذ بكلية طب جامعة صنعاء ، وحورية مشهور نائبة رئيس اللجنة الوطنية للمرأة ، والدكتورة اروى الربيع مدير عام مستشفي السبعين ، وفوزية النعمان رئيسة جهاز محو الامية ، وفايزة بامطرف عميدة كلية البنات بجامعة الاحقاف وشذى ناصر اول محامية يمنية ، والدكتورة خديجة الهيصمي استاذ العلوم السياسية بكلية تجارة جامعة صنعاء، والباحثة ثروة احمد شعلان المعيدة بكلية تجارة جامعة صنعاء ، والمحامية نبيلة الحكيمي الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الانسان والدكتورة رؤوفة حسن استاذة الصحافة بجامعة صنعاء ، ثم الدكتورة وهيبة فارع اول وزيرة لشئون حقوق الانسان ورئيس جامعة الملكة اروى ، نهاية بخديجة السلامي اول مخرجة سينمائية واول انتاجها الفيلم التسجيلي “الغريبة في مدينتها” الذي نال الجائزة الاولي في مهرجان بيروت للافلام التسجيلية ، وجائزة تقديرية في مهرجان هولندا ، وكذلك الممثلة الواعدة فتحية ابراهيم ، والكاتبة روزا عبد الخالق اول طيارة مدنية محترفة في تاريخ اليمن والجزيرة العربية .
والشاهد ان جمال المرأة اليمنية وليد عالم التنوع البيئي والمناخي الذي يزخر به مختلف ربوع اليمن ، فساكنات ذرى الجبال الخضراء لهن ملامح وسمات وبنية مختلفة عن ساكنات المدرجات والسفوح والوديان والسواحل او الصحراء ، ورغم ان المرأة اليمنية في الغالب تشارك الرجل في كسب المعايش ، الا انها لا تنس الحفاظ على ما وهبها الله من الجمال ، عبر اختيار زينتها من الطبيعة دون اللجوء الى المساحيق الصناعية والاصباغ الكيميائية ، فهي تكحل عينيها بما يسمى “الاثمد” وهو مسحوق حجر طبيعي اسود اللون يميل الى الزرقة ، وتغسل شعرها وتستحم كذلك بأوراق شجرة الدر والنبق والدوم بعد غليه في الماء ، والحناء من الزينة الاساسية للشعر وصبغة ، وكذا تزيين الايدي والاقدام بنقوش جميلة من الحناء كما لو انها لوحات تشكيلية ، كما تستخدم رماد بعض جذور النباتات بعد حرقها في عملية تزيين الصدر والوجه والانامل وحول العين في أشكال هلالية ، مما يشي باستيحائها من العمارة اليمنية ، وحين كذلك تتعطر المرأة بالنباتات ذات الرائحة الذكية كالشذاب والريحان والمشموم والكاذي او تلف بها شعرها في عصابة حول رأسها ، وتسمى هذه الطريقة “مشاقر” بمعنى علو البناء ، ثم هناك طيوب طبيعية اخرى مثل المسك او العنبر والزيوت المستخرجة من “قط الزباد” في جزيرة سقطرة ، وكذلك الظفر المستخرج من الحيتان البحرية .
الفضة زينة الزينات
وتميل المرأة اليمنية الى التزين بالمصوغات والاكسسوارات الفضية اكثر من الذهبية، ويقولون عنها في اليمن انها زينة الزينات ولا تزال بعض العائلات اليمنية العريقة تحتفظ بالحلي القديمة دقيقة الصنع ، وتعرف بالفضة “البوساني” نسبة لعائلة يهودية كانت تشتهر بصناعتها في الماضي .
وتتزين المرأة اليمنية بعقود الفضة من باب الزينة والادخار ، ولذلك تتولى منها في الغالب عملات من الفضة او الذهب والعقيق واللؤلؤ الحر ، وهي دليل على المكانة الاجتماعية، بينما تلف خصرها او يتدلى من رأسها حزام من الفضة يسمى “العصبة” ، او يتدلى على الخدود ويسمى “زين الخد” ، اضافة الى الاساور العريضة وتسمى “قبور العشاق” ، وكذا الخلاخيل التي تطوق الارجل وغالبا ما يرصع هذه الحلي وكذا الخواتم بفصوص من العقيق اليمني والمرجان واللؤلؤ .
واذا كان الزي النسائي التقليدي الموروث في اليمن وخاصة الشمال عبارة عن “الستارة” والشرشف والعباءة والمعرفة والملحفة ، فقد ظهرت مؤخرا اكثر من محاولة لتطويرها ، وكانت البداية في ازياء الطالبات الجامعيات ، عبر الدعوة التي تبنتها الصحفية رضية احسان الله ، اذ تقول “لماذا نرتدي زي شعب اخر ونحن امة عريقة في الحضارة ، ولماذا تقلد المرأة العربية الموضة الاوروبية ونتخذها مثلا اعلى في الاناقة ، ولماذا نسايرها في قص الشعر ورسم الوجه حسب الملامح الاوروبية .
ثم نجيب على هذه التساؤلات قائلة : لاشك ان التبعية الحضارية تؤدي حتما الى التبعية الاقتصادية ومن ثم التبعية السياسية بشكل أو بآخر ، ومن هنا فان التحرر الحضاري يعني التحرر النفسي والروحي من تبعيتنا للغرب ، والزي القومي هو وسيلة من وسائل التحرر كما حدث في معركة التحرر بالهند – حيث كانت الدعوة الى زي وطني من اهم اهدافها ورغم اخذها باللغة الانجليزية والكثير من الثقافة الانجليزية !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.