الأثاور إحدى عزل مديرية حيفان بمحافظة تعز , المديرية الحاضرة على خارطة اليمن بتاريخها وخيرها ورجالها الذين برعوا في كثير من ميادين العلم والأدب والفن .. حيفان الزاهية بروعة المنظر وشموخ الجبال وظل الغمام وبهاء القمر وسطوع الشمس . على بعد (50) كيلو متراً جنوب شرق الحالمة تعز تقع هذه المديرية القريبة من السماء بارتفاع جبالها , تغنى فيها فنانها القدير وفنان اليمن الكبير أيوب العبسي وهو ينشد العودة إليها كطائر سافر عبر أزمان بعيدة وظل يرقب رجوعه الى عشه. حيفان حياة يرعى الحبيب فيها سعد المنى يوم السفر إليها قد زاد شوقي والحنين إليها الى رباها سهلها ووديان و الأثاور واحدة من عزل هذه المديرية الجميلة .. اسمها الدال على الثورة لا يترك تفسيراً آخر سوى ثورة أبنائها على قسوة الطبيعة والتضاريس المتموجة هناك , وهو ما يجعلنا نتفهم رغبة الإنسان القديم في البقاء والاستقرار فيها رغم طبيعتها القاسية. الطريق إليها محفوف بالدهشة ومكتظ بسحر طبيعة عذراء آسرة , في أول قمة فيها تتحلق حولك الغيوم كأنها الأماني التي استودعها جناح طائر ذات يوم , ثم تسلمك منحدراتها الى سهولها بسلاسة بالغة وكأنك تهبط بأجنحة من حنان لتغوص في سندس وادي الضباب الذي لم يعرف الجدب . حين ترى شموخ جبالها تتوجس خيفة لعلوها , وما هي إلا برهة حتى تنحني لك تلك الجبال لتحتضنك برقة متناهية بين منعطفاتها ثم تطأ معها بطون السهول فإذا بالأشجار تلفك بحنوٍ كأم تحتضن فلذة كبدها بعد غياب طويل , او كعاشقة وصل معشوقها للتو بعد فراق مرير وهي تريد ان تملي عينيها بصورته دون ان يحس بها احد . في الأثاور من التنوع الطبيعي ما يكفي الجميع ليتقاسموا متعة المشاهدة , فيها من المساجد الإسلامية القديمة التي يشبه طراز بنائها مساجد الدولة الرسولية, ومن المغارات والكهوف البديعة الشيء الكثير والكثير , كما ان فيها من الموروث الثقافي ما يجعل الأماني صغيرة .. وسهلة التحقيق , العادات والتقاليد التي يمارسها السكان هناك تتطرز بملابس تقليدية تارة تلف مدرجاتها الزراعية وتتناثر على أسطح مبانيها الرابضة على قمم الجبال والسفوح والوديان تارة أخرى وهو ما يجعلك تشعر بالاكتفاء إلا من أمنية واحدة : هي ألا تفيق من حلم حقيقي كهذا . لا أكون مبالغاً ان قلت ان الأثاور فيها من مكامن الروعة ما يعيد للنفس طفولة يحتاجها الهارب من زحمة المدن المفتقدة لنسائم المدرجات التي تغري بالارتقاء فيها أكثر وأكثر , أما في رمضان فالأمر اشد ومختلف فحين تتجه إليها في شهر رمضان الكريم فمعنى ذلك انك تبحث عن براق من البهجة ترتقي به في معراج تخضر معه الروح وتسيح في أغوار شجن ومتعة لا تنتهي تنعش النفس وتجعلك تقسم قبلها ما ذقت متعةً قط , تجعلك تحس بشيء يتلون بتلون التلال والجبال في الأثاور , وان هناك ثمة ذاكرة متعبة وجسم مكدود وملامح تعلو سحنتها فترة السنين وشمس لم تزل في مدار الجدي . رمضان في الأثاور له مذاق خاص ونكهة مميزة اكتسبه من مفرداتها الطبيعية وتنوع الأنشطة الرمضانية , على الرغم من ان السنين قد سلبتها نكهة هذا الضيف الكريم . في الساعات الأولى من نهار رمضان لا تسمع للأهالي حساً ولا خبراً وكأن المنطقة تعيش في سبات عميق إلا من أصوات بعض النسوة او أصوات الأطفال الذاهبين الى مدرستهم , او ثغاء الخرفان المنطلقة الى المراعي وكذلك حركة بائعي الخضرة وهم يبحثون لهم عن ظل شجرة يحطون فيها رحالهم ريثما يصحو الناس من سباتهم ليبيعوا عليهم الكراث والبقل ذلك انه من المستلزمات الضرورية للمائدة الرمضانية في كل قرى ومناطق الأثاور ولا يمكن الاستغناء عنها في رمضان. عبدالرزاق المعروف ب«قحطان» واحد من هؤلاء الباعة الذي لا يزال منذ أعوام يمد القرية بخضرته اللذيذة ذات المذاق المميز والتي يجلبها من وادي الضباب - احد الأودية الشهيرة في الأثاور نظراً لجريانه الدائم وتنوع منتجاته - عرفته وأنا طفل وهو يحمل كراثه على ظهر حماره ليحط بها تحت شجرة وارفة بجانب مسجد القرية والناس يتزاحمون حوله لشراء عدد من «مرابط » الكراث القحطانية . مع ساعات الظهيرة المتأخرة تبدأ الحياة تدب في المنطقة فتلحظ بنفسك الدخان يتصاعد من أسطح المنازل ناشراً رائحة اللحوح الريفي في أرجاء السفوح , وتسمع أذنك في ذلك الوقت أهازيج الرعيان وفي الجهة الأخرى تسمع تلك الألسن الشاهقة بالتهليل والتسبيح كشعيرة رمضانية لا اقل ولا أكثر, وتشاهد سوق الخزجة وقد اكتظ بالمتسوقين الذين يفدون إليه من كل حدبٍ وصوب ليتسنى لهم شراء ما يقدرون عليه من وريقات القات التي تعينهم على قضاء الليل , كما تلحظ أسراباً من الناس قد تجمعوا على طول الوادي في محطات معينة ينتظرون قطار أذان المغرب وقبل ان يصل إليهم بحسب التوقيت المحلي لضواحي الأثاور وما جاورها ينصرف الجميع الى بيوتهم حيث يجدون موائد الإفطار بانتظارهم وقد جمعت أصناف الطعام إلا ان الشفوت يكون زينة موائدهم وهو المصنوع من اللحوح الريفي الذي تتميز به الأثاور وبقية العزل بمديرية حيفان عن باقي المناطق , فاللحوح هناك عبارة عن دوائر رقيقة جداً مصنوعة من حبوب الدخن او الذرة الصفراء تشبه في شكلها رقائق الحرير ثم يبلونها بالحقين البلدي ذي النكهة المميزة , وما يعجبك في موضوع الحقين ان الأسر التي لا تمتلك الأبقار حق على جيرانهم ان يزودوهم بالحقين ولو لم يكن حقيناً إلا في شكله نظراً لكثرة الماء بين جزيئاته المهم ان يكون ضمن موائدهم الرمضانية , وفي المقابل وعلى موائد الإفطار تلاحظ الكثير من الأكلات الشعبية قد بدأت تختفي وتأخذ طريقها الى الأفول والنسيان. حين يلفلف النهار عباءته مغادراً , ويزداد تراكم اللون الرمادي الذي يكسو لوحة الطبيعة لتحل محله تباشير ليل رمضاني يزحف من وراء الجبال , ويكون الناس قد افطروا وتناولوا عشاءهم يتوجه البعض منهم الى مسجد القرية لأداء صلاة العشاء جماعة مع المصلين , قليلُ من يصبرون أنفسهم لصلاة التراويح أما الأغلب فيقولون ان إمام المسجد يطول في قراءته وإنهم لا يحبون الصلاة بعده مما يضطرهم للعودة والتوجه الى مجالس السمر والقات. وعلى الرغم ان الأثاور لا زالت تعيش ليلها في ظلام دامس بسبب عدم ربط الشبكة الكهربائية , إلا ان الأضواء المنبعثة من بعض المولدات الصينية وصفائح الطاقة الشمسية المنتشرة في أسطح المنازل تكون كافية لقضاء أسمار رمضانية ممتعة فترى الاهالي يتوجهون الى المجالس التي فيها مثل تلك الأضواء “ ديوان المسالق “ واحد من هذه المجالس التي كانت ولا تزال محطة لقضاء الليالي الرمضانية عند كثير من الأهالي يجتمعون فيها لمضغ القات والخوض في أحاديث لا تفيد ولا تنفع في أحيان كثيرة ويذكرون مساوئ الناس وينهشون فيهم بلا وازع ديني ولا مبادئ أخلاقية لأنهم قد تعودوا على ذلك ولا يستطيعون قطع هذه العادة , وفي المقابل هناك مجالس أخرى كثيرة وظيفتها أرقى من سابقتها فروادها تراهم يتحدثون في السياسة وأوضاع المنطقة او مشاهدة بعض البرامج التلفزيونية ثم يختمون مجالسهم بلعب أوراق الكوتشينة (البطة) وما ينفضون منها إلا في وقت السحور ولسان حالهم لو يطول بهم المقام وان لا تسلبهم نداءات التكبير المنبعثة من مكبرات الصوت ما وهبه لهم السمر من إحساس حقيقي بمعنى الروعة والتي ارتشفوها مع كل ورقة كوتشينة كانت تسقط على طاولة اللعب او ضحكة تفوح برائحة الغيبة ونتن النميمة , فلا يملكون وقتها إلا ان يحبسوا أحاسيسهم ويحزموا عائدين الى منازلهم لتناول السحور والإمساك ليوم رمضاني جديد بعد ان يقطعوا على أنفسهم وعداً وموعداً بمواصلة الروعة والأنس في ليلتهم المقبلة.