لا نعرف بالضبط من هي الجهات التي تنتج وتمول تلك الأعمال الدرامية الضخمة التي باتت تعرف بالمسلسلات المدبلجة والتي يصل طول البعض منها الى مئات الحلقات ويستمر عرضها عدة أشهر لكننا نستطيع أن نستنتج ببساطة شديدة ودون عناء أن مثل هذه الأعمال ( الماراثونية ) ونجومها المتألقة وأجواءها الساحرة الباهرة تتطلب بالتأكيد ميزانيات إنتاجية هائلة جدا لا تتأتى للمنتجين التقليديين الذين نعرفهم في القطاعين العام والخاص على حد سواء . ونعرف أيضا أن هذه المسلسلات تأتينا من مصادر مختلفة من أقصى بقاع الأرض وتلقى في بلادنا رواجا هائلا فهي مرة أرجنتينية ومرة برازيلية ومرة تركية ومرات بلا هوية محددة !! التشخيص في الدراما هو كيفية رسم الشخصية في العمل الدرامي المحدد وأن من أهم مقومات التشخيص ملائمة الحوار للشخصية ( من حيث العمر والجنس والهيئة والمستوى الثقافي والاجتماعي ...الخ ). وهنا يأتي دور الأستوديوهات العربية المتطورة التي تخصصت في فن الدبلجة ونجحت فيه الى حد بعيد والى درجة أن بعض المشاهدين لا يعي أن الحوار مدبلج على لسان الشخصية بل يعتقد أن الشخصية التي يشاهدها عربية في الأصل نظرا لبراعة الدبلجة والتوافق التام بين الشخصية ونبرة الصوت ومستوياته والاختيار الدقيق للأصوات المؤدية بحيث أصبح لدينا فنيون و مخرجون مختصون بإخراج النسخة المدبلجة . وهكذا أصبح أبطال هذه المسلسلات المغمورين في بلادهم نجوما في بلادنا . وأحسب أن هذا النجاح الهائل في دبلجة الأعمال الدرامية الأجنبية والاحتفاء الكبير بتقديمها في مختلف الفضائيات التي تدخل بيوتنا بيسر هو بالضبط مكمن الخطورة التي أحاول هنا - مثل غيري - لفت النظر إليها . تكمن خطورة الدبلجة الناجحة - حسب علمي - في أنها تكسر الحواجز وتذيب الفوارق بين الشخصية ومتلقيها ( الذي يكون غالبا من الشباب والفتيات الذين تبهرهم كثيرا وسامة البطل وجمال البطلة ) وإذا كانت الدبلجة سابقا تجري بلسان عربي مبين للمسلسلات القادمة من أمريكا اللاتينية فأنها تجري الآن باللهجة الشامية الدارجة التي باتت مألوفة ومحببة لمعظم المشاهدين وإذا كان الأبطال سابقا يحملون أسماء غريبة مثل ( خوسيه ماريا وأنطونيلا ) فأن هذه الأسماء أيضا شملها التغيير الآن لتصبح مألوفة لدينا مثل مهند ونور وأسمر وزينة و غيرها . لكن ما هو بالضبط الحوار الذي يدور بالعربية على لسان الشخصية التي تحمل اسما عربيا ( ومسلما كما هو واضح ) ؟ يعكس الحوار الثيمة المتكررة السائدة - في جميع هذه الأعمال التي تسمى الآن الدراما التركية والأعمال التي سبقتها - وأعني بها الأبناء غير الشرعيين والعلاقات الجنسية بل والعيش المشترك خارج مؤسسة الزواج مع شيء من الجريمة المنظمة وغيرها من الأجواء الغريبة التي لا نعرفها تقدم جميعا في طبخة شهية دسمة في إناء مزوق بالجمال الساحر والرشاقة الفائقة والأناقة المفرطة التي تتيه في سحرها العقول ,والتي تأسر انتباه المشاهد البسيط وتجعله يلهث وراء حلقاتها الطويلة . يحق لنا الآن أن نشير بأصابع كثيرة من الاتهام والريبة ونتساءل عن حقيقة وهوية الجهات التي تجزل العطاء والبذخ لهذه المسلسلات وعن الذين يسعون جاهدين لتقديمها لنا ( خصوصا وحصريا ) وبانتظام ليغسل أدمغتنا ويسفه أحلامنا . لا نستطيع بالتأكيد بإمكاناتنا الفتية والأنتاجية المتواضعة أن ندخل حلبة المنافسة مع تلك الأعمال الضخمة لكننا نستطيع بشيء من الدراسة المتأنية والمراجعة الدقيقة لخطابنا الإعلامي أن ننشأ (جدار حماية ) يمنع الفايروسات من التسلل الى الشاشة الصغيرة التي تجتمع عندها العائلة .