«إن وجود القصيدة هو دائماً في منطقة مابين الشاعر والقارئ.. ولا تقتصر على مجرد مايريد الشاعر التعبير عنه» إليوت في نهاية السبعينيات ظهرت نظرية التلقي، وهي منهج جديد تبنته الدراسات الأدبية بهدف إدارج المتلقي ضمن الظاهرة الأدبية، وربط القارئ بالمبدع عبر تداخل بنية النص بمتلقيه، وهذا التداخل الذي يُعد جوهرياً لكل أثر أدبي فهو تواصل وتحاور بين النص وقارئه، وتفاعل يجعلهما في علاقة بنيوية تؤكد توقف أحدهما على الآخر، فالقارئ يرتهن للنص، والنص يتحقق بوجود فعل القراءة. ومن هنا نرى أن مركزية المبدع أو المؤلف الذي ظل النقد القديم يقر بها، أصبحت الآن موزعة بينه والقارئ الذي أدرج في الظاهرة الأدبية وأصبح قطباً من أقطابها الأربعة: المؤلف، السياق، النص، القارئ فكل من المبدع والقارئ موجودان في النص، فالمبدع يتجلى كأسلوب متميز، وللنص لغة محشوة بالرموز والإشارات لايقوى على حلها، والغوص وراءها إلا قارئ متمرس، فالتجلي الخطي للنص يكمن في سطحه اللفظي، أي في تركيبة ألفاظه وترتيبها، أو في مظهرها ومعانيها القريبة المفهومة، والقارئ يمارس على هذه التعبيرات نظاماً من القواعد اللغوية والنحوية بتحويلها إلى مستوى أول للمضمون، لكن ليست كل النصوص تقدم لنا في تجليها الخطي مضمونها الجوهري، أو معنى المعنى كما قال القدماء لذا يصبح لزاماً على المتلقي أن يغوص وراء المعنى الدفين، المعنى الثاني وراء السطور بين التشبيهات والاستعارات. ومن هنا تكون القراءة قراءة عالمة تتعدى جسد النص الذي تشيده الألفاظ إلى أعماقه الذي يتشكل من معنى المعنى، وتتجاوز من حد العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه، والتغلغل في مكامنه، فمهمة التلقي هي استنباط مايعرف بالنص الموازي الذي يوجد إلى جانب النص المتحقق، وهو النص المتخيل أو الممكن. والنص فضاء، ومساحة مفتوحة تتيح قراءته الولوج إلى عالمه، والتعرف على محيطه، فهو يتحمل أكثر من قراءة، ويشتمل على أكثر من معنى، من هنا فالمتلقي لم يعد منفصلاً عن العمل الأدبي، خارجاً عن محيطه، بل أضحى مشاركاً في إبداعه وتحقيقه وذلك بفصل المتلاحم منه، وجمع المتباعد من أجزائه، وملء بياضاته غير المقولة، أو مقولاته التي ظلت بيضاء غير مفهومة، مع توليد المعاني الجديدة التي يوصي بها العمل الأدبي، فالنص دائماً يملك إمكانات للتجدد والتحول، فهو يشكل كوناً من العلامات والإشارات التي تقبل التفسير والتأويل، وتشكل عند قراءتها مجالاً لانتظام كلام ٍ آخر، هو كلام القارئ أو المتلقي، هذا الكلام الذي يتسم دوماً بالاختلاف والتغير تبعاً لاختلاف ذهن المتلقي، ومن هنا يكون للكلام الأدبي قطبان، الأول: القطب الفني، والآخر: الجمالي؛ فالفني يشير إلى النص كما أبدعه المؤلف وأما الجمالي، فيشير إلى التحقق الذي أنجزه القارئ وهو ما يسمى بجمالية التلقي، وهي وجود مسافة بين الإبداع وتلقيه أي بين النص وتحققه الخارجي، وهذه المسافة التي سميت بأفق الانتظار كما هو عند «ياوس» أحد منظري التلقي، وهذا الأفق هو خلاصة لاختلاف قراءات النص الواحد من قارئ لآخر، بل وقد تختلف عند القارئ نفسه بحسب أحواله وتطور معارفه، أو بحسب فهمه وتواصله مع العمل الأدبي.. لذا التلقي يفترض من عصر لعصر تجسيدات متغيرة لتغير الآفاق والأفهام، فطبيعة أفق الانتظار للجمهور الأول تشكلت من طرائق التعبير في الشعر الجاهلي وفي محاولات تجديدية في العصر العباسي، وبمقتضى هذا النوع من الآفاق، فالشاعر المرشح لأن يلفت إليه الانتباه هو الشاعر الذي يستطيع أن يحقق في شعره عناصر القدامة والحداثة. فهناك أبو الطيب المتنبي الذي مازالت حقيقته قائمة في شعره ومازال شاغلاً للناس حتى يومنا هذا، لجمالية شعره وقيمته الفنية، بالإضافة إلى كل ماقيل عن هذا الشعر في العصور المختلفة، لذلك الاستفزاز والانتباه الذي يحدثه صوت المتنبي في القراء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، حتى اولئك الغارقين في الحداثة، فمن قصائد المتنبي نأخذ قوله في مدح سيف الدولة: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكتّم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظراتٍ منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم ففي هذا النص نلاحظ تداخل المشاعر مع بعضها البعض، ففيها من الذاتية أو ما يسمى بالأنا في غرض المدح مع إظهار للشكوى، بالإضافة إلى المتعة والتشويق مع روح المفاجأة والابهار بهذه اللغة التي تتعاظم شيئاً فشيئاً حتى تشمل الكون كله، بل وتنحصر داخل نفس الشاعر، نعم المتلقي القديم قد يهتز، وهو يسمع هذه الأبيات، ويرى فيها خروجاً عن التقليد الفني الموروث، وذلك من إقحام للذاتية في غرض المدح، الذي يهيمن فيه الآخر، بل وقد يحتل فضاء النص، فخروج النص، نراه في عدم مراعاة الثوابت، أي ثوابت الغرض الشعري إذ لم يراع مقام الممدوح، فالشعر في زمن المتنبي كان يريد ذلك، لأن الشعر يولد في إطار عقدة القراءة، وتلزمه بأن يراعي مقام المتلقي، وأن يأخذ توقعاته بعين الاعتبار وهذا ماتحدث عنه «ياوس» أحد منظري التلقي، بأن الأفق ليس دائماً مرتبطاً بجمهور معين، فقد تظهر أعمال أدبية تقاوم تلقيها الأول، أو لا تتقبل هذه الأعمال، لأنها تخالف أفق انتظاره، ولكن قد تأتي فترة، وينشأ جمهور يتأسس فيها أفق انتظار جديد، يرى فيها الجمال والمتعة والتسامي مع روح الشاعر كما لاحظنا في النص السابق، الذي ينقلنا إلى عوالم مليئة بالدهشة، ونحن نتخيل الكون وكيف صار قطرة صغيرة في عالم الشاعر المتنبي، فكان البوح بكل مافي نفسه المضطربة، بل وإبراز للأفكار والمقاصد الذاتية، وهي الذات التي ربما نجدها في كل أغراض المتنبي الشعرية وهو يتجاوز باللغة إلى اللاممكن ليظهر حقيقة للمتلقي ويستفزه إما أن يصدقه، أو يهز رأسه متعجباً، ومن هنا نفهم معنى شعرية التلقي بوصفها إشراكاً للآخر الذي يتموقع خارج الذات الشاعرة الدافعة للقول، أو المحاكية لمتخيل جمعي، وهي شعرية تمتاح من بؤرة اللاشبيه أو المغاير، ذلك المغاير الذي يسهم في إنتاجية النص الممكن زوايا معاكسة وهي إما القراءة،أو التأويل أو التحضير. ومن هنا تتعدد القراءات بتعدد القراء وتنوع ظروف المتلقي على مدى الأمكنة والأزمنة، وهذا القارئ أو المتلقي قد يكون ناقداً عالماً، أو إنساناً عادياً ليس له في الأدب ناقة ولا جمل، إنه المستمع أو القارئ الممكن والمحتمل.