ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي.. بل هي دعوة إلى تبني نموذج معين.. و(إيديولوجيا) تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وإقصاء الخصوصي. طمس وإلغاء ووصل الأمر عند كثير من المهتمين لتعريفها بأبشع من ذلك فهي : اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، أو السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال. ولعل التعريف الأشمل ما أتى به الدكتور/مصطفى محمود بأن العولمة مصطلح بدأ لينتهي، بتفريغ المواطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي بحيث لا يبقى منه إلا خادماً للقوى الكبرى. فيما يقول عنها سليمان نجم خلف بأنها ذلك التكوين الذي يشهد تبادلاً وتفاعلاً ثقافيين بصورة مستمرة ودائمة. وللعولمة أبعاد ومختلفة (سياسية، اقتصادية، ثقافية) وهذا الأخير باعتقادي هو الأكثر خطراً لأنه يهدف إلى طمس وإلغاء للثقافات الوطنية، والخصوصيات الانسانية سواء بشكل مباشر وصريح، أو بشكل مقنع بقناع اقتصادي لكنه مشبع بالرؤية الثقافية التي ترافق أدواته ومخترعاته وانتاجه وعاداته وأنماط استهلاكه. تنميط الحياة يقول الأستاذ أحمد المريش: لسنا أمة هشة سريعة العطب سهلة الانكسار، تعيش في فراغ حضاري وثقافي وغياب انساني.. إنما نحن أمة لدينا دين خالد ومخزون فكري وثقافي، وطاقات متميزة وتخصصات علمية دقيقة. ويرى المريش أن القيم هي جوهر عملية توجيه الثقافة، وأن الدين هو المنبع الرئيسي للأخلاق، والعولمة المهيمنة هي غربية بامتياز، وقد أصبح مألوفاً أن نشهد ملامحها واحتلالها للعقول والنفوس عبر وسائل الاتصال وشبكة المعلومات(الانترنت) التي أزالت الحدود، وفي شيوع مصطلحات العولمة على الساحة الثقافية، ومحاولات تنميط اسلوب الحياة في الطعام واللباس والتسوق والاستهلاك. وأضاف المريش: نحن أمة لدينا تاريخ وحضارة وقيم مثلى وعندما نعود إلى العصور الوسطى كان المستشرقون يأتون إلينا وينهلون من ثقافتنا وتلك العملية بالمعيار العام تعد عملاً جيداً من قبل الدارسين عندنا أو عندهم.. والاشكالية الماثلة الآن أننا لم ندرس الايجابيات الغربية بشكل جيد.. المريش اعتبر التقدم الحضاري للغرب ما هو إلا قشور حضارتهم أما جوهر تلك الحضارة فهم لايسمحون لنا بالوصول إليها أو التعرف عليها فهي كما يصف: لم تقدم لنا غير الدمار والحروب والتفسخ الأخلاقي. الخيانة الثقافية وأكد المريش أن الخوف كل الخوف أن يتعولم المثقفون والنخب الذين يعتبرون خط الدفاع الأول، وتمارس عليهم عمليات الاستنساخ الثقافي، فيمارسون الخيانة الثقافية، قبل أن تتعولم الأمة.. وقد تكون مشكلة الكثير منهم التعاطي مع العولمة بنظرة قاصرة، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال الموازين في دراستها وعدم إبصار الأجانب الهيمنة والسيطرة بعيداً عن انجازاتها في مختلف المجالات. ولفت المريش إلى قضية مضمونها أن العائدين بثقافة الغير ليس بالضرورة أن يكونوا قد هاجروا إلى الغرب وتأثروا بما هو معاش هناك، فالعولمة والعالم القرية.. -كما يصف- يسهل المهمة أكثر فإعلام العولمة بتنوعه واهتمامه اقتحم البيوت وأخذ وقت الانسان كله، فهو الأسرة والمدرسة والنادي والمجتمع والأم والأب والجار.. والتأثير حتماً سيطال الجميع خاصة إذا مورست الخيانة الثقافية من قبل النخب؟! فضاء مفتوح يتساءل مكرم عبدالحميد: إلى متى سيظل الباب مفتوحاً أمام كل ثقافة مشبوهة تغرد في سمائنا؟! وهو التساؤل الذي انطلق منه مكرم ليتحدث بنبرة غاضبة عن الغزو الفكري الذي يستهدفنا والذي اعتبره أخطر من الغزو العسكري، فهو يدخل إلى كل بيت ويصيب عقول شبابنا بالشلل التام ومن ثم تحطيم نواة الأسرة العربية المحافظة. قاطعت مكرم بأن موضوعي يتركز حول العائدين بثقافة الغير فأجاب: ليس بالضرورة أن يسافر الواحد منا إلى هناك ويحدث له غسيل مخ كما كان يحدث إبان الحكم السوفيتي.. الآن الوضع تطور وصار الفضاء مفتوحاً و(بزرة) ريموت تتلقى ما هب ودب من الثقافات. وأضاف مكرم: إن الثقافة المنشودة هي الثقافة العربية الاسلامية الأصيلة التي تؤدب المرء وتحفظ له حياته وقيمه وأخلاقه وأخلاق بقية أسرته.. وإن أردنا العزة فعلينا الوقوف في وجه هذا الغزو الفكري الخطير، ولنقف وقفة واحدة في مواجهة أي ثقافة لا تنطبق مع ثقافتنا ومع ديننا الحنيف ولنهذب أخلاقنا أولاً ثم نبدأ بالأسرة من أجل أن نتعايش حتى في ظل هذه التحديات الخطيرة. القيم يرى كثير من المهتمين أن علاقتنا مع العولمة تحتاج لإعادة نظر، تعي العولمة كظاهرة شاملة، وباستخدام العقل لفهم كل مايدور فنحن لا نحتاج إلى مناعة أخلاقية بل إلى مناعة فكرية وعقلية وعلمية، فالاختراق الغربي لهويتنا العربية ليس بسبب قوة العولمة الكاسحة بل يعود في كثير من الأحيان إلى ضعف في هوية المسلمين وبمعنى أصح ضعف قدرتهم على تجسيد الهوية الاسلامية. وهذه المناعة كما يعتقد الأستاذ محمد القاضي – مدير عام مؤسسة طموح للثقافة والعلوم لن تكتمل إلا من خلال القيم التي هي في الأصل معايير ومقاييس الفعل البشري ومحددات السلوك وضابط أهداف النشاط الانساني والمسيرة البشرية في مختلف المجالات. ويرى القاضي أنه ليس بالامكان أن يضع الانسان معياراً ومقياساً لتقويم نفسه فبذلك تلتبس الذات بالقيم والأنشطة بمعايير التقويم ويصير الانسان الذي يجري على فعله الخطأ والصواب هو المقياس وعندها تنقلب المعادلة فالحق يعرف بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق. الحل الأكبر أ.القاضي أفصح أيضاً عن عديد حلول وصفها بالمهمة، ويجب اتباعها لتفادي تلك السلوكيات الدخيلة على مجتمعنا المحافظ وهي بمجملها لم تذهب بعيداً ورؤية القيم الآنفة وهي تدعو إلى استرداد الفاعلية وشحذ العقل العربي لمعاودة الانطلاق، وتشكيل رؤية تلتزم بالمرجعية الاسلامية للقضايا المعاصرة بعيداً عن الارتماء على الآخر ومحاكاته وفي ذلك إلغاء الذات أوالانكفاء على الذات وفي ذلك تجميد لعالمية القيم الاسلامية. وبين هذا وذاك يكمن الحل الأكبر حسب توصيف القاضي وذلك من خلال اجتهاد فكري شامل ومنضبط بمقاصد الدين، وقادر على توليد رؤية للقضايا المعاصرة، بعد أن أصبح العالم كله قرية واحدة تدور فيه عجلة العولمة بسرعة فاقت كل التقديرات إلى درجة تتيح للانسان استيعابها والتعرف على وجهتها وكيفية التعامل معها. وختم القاضي حديثه بأن الوصول إلى تلك المرحلة لا يمكن أن يتحقق بالتمني، وإنما يتطلب اعادة النظر أيضاً في موارد تشكيلنا الثقافي، وعلى الأخص مناهجنا التعليمية والاعلامية لتكون قادرة على صناعة المؤهلات لهذا الاجتهاد والذي عنيناه.