ينقلب أحمد الشامي في فراشه فما شاهده اليوم قد أحزنه حزناً عميقاً ..حزناً مخلوطاً بأفكار شغلته عن النوم ..أفكار لابد أن تخرج حتى يهدأ ويواسي بها حزنه ينهض وينحت كعادته في الجدار: كان جناح الموت . في (حجة) المنيعة، يظلل السجن الكئيب ، وكانت (الأوراق) ، (بالتلغرافات)، من (الإمام ) و (إلي النائب) أو إلى (الأمير) تفزع الجميع . وذات يوم . قد أتى أمر فظيع ، أن يقتلوا الكبسي ، ومعه الحورش ، والمسمري والهمام محي الدين : أربعة كبار. يطأطئ التاريخ ساجداً لهم من الإجلال والإكبار. واختارت الأقدار، لموتهم اخلد يوم في اليمن عيد رجب ، أول جمعة في كل شهر رجب . يحتفل الجميع . في كل أنحاء البلاد . ذكرى مقدسة ، لأن فيها وصلت رسالة النبي . وأسلم الجميع في اليمن . وفي يوم إسلام اليمن .. قد أمر الإمام بقتل (أربعة ) ، كانوا يمثلون كل إيمان اليمن . يطرق الشامي هنيهة ...يعود وينحت على الجدار : سأذكر الجميع ..في اليقظة والأحلام ، وعند أي مشهد للضيم والآلام سأذكر الذين عاشرتهم في الصلوات، وفي ابتهال الدعوات ، وفي انتظار الموت ، وفي اختراع حيل البقاء وخطط الصراع والكفاح ، نلطف الأسمار ، بطرف الأشعار ، ونكت الأخبار . سأذكر الألى ماتوا معذبين ، ماتوا ضحايا بائسين من أجل أن يحققوا لليمن الكبرى حرية التفكير والكلام ، والعيش في سلام .. يسمع أحمد محمد الشامي جلبة خارج باب السجن ..يدير رأسه على فتح الباب واندفاع اثنين مقيدين بالأغلال من أيديهم وبالقيود العادية في أرجلهم ..يدور الشامي بجسمه كله ..ينظر صامتاً ..منظراً اعتاده ..إلى السجان ناصر علي وهو يفك عن الاثنين الأغلال ويضيف لكل واحد إلى قيده العادي (السك)..يتقدم الشامي نحو الثلاثة ..يتقدم مقيد الرجلين.. خطى برجله اليمين ربع خطوه بطول السلسة الحديدية الممتدة بين الحلقتين المثبتتين بين الرجلين ..يقف ليسحب رجله الشمال ..يتقدم الشامي ألهوينا ..يسأل الشامي : من أنتما ..ينظرون إليه لهنيهة يبادر أحدهم بالقول : أنا محمد بن محمد الإرياني ورفيقي . من أين صعدتم ولماذا ؟ صعدنا من زبيد ولماذا قصة أخرى ..ينظر إليهم الشامي مفكراً ..يقول (فجأة) أنتم جمعية القلم بزبيد إذن ..سمعنا عنكم ووصلنا بعضاً من منشوراتكم ...صعدتم بيننا سهلاً وحللتم أهلاً ..سنعطيكم فرشاً من الفرش التي تركها الصاعدون ممن قُطعت رؤوسهم ..يصمت الشامي مطرقاً للحظات ..يرفع رأسه يقول : ألم تتعظوا ممن قُطعت رؤوسهم ؟ كيف نتعظ وأنت الذي كنت تحرض من الإذاعة الأحرار على الصمود ليلة سقوط قصر غمدان ..الشرارة الأولى لسقوط صنعاء وتردد قول شوقي : وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ..كانت الحرية ..لم يتعظ الإرياني وجماعته ..من أجل الحرية لم تردعهم الرؤوس التي قطعت ولا الأحرار وهم يصعدون مكبلين بالأغلال ..يعرفون أن الحرية لن تأتي هكذا بدون تضحيات ومن أجل الحرية ناضلوا بالقلم ..لم يتجاوز نضالهم الكلمة ..أراد الإرياني وجماعته أن يسموا جمعيتهم .. جمعية القلم ..لم يسموها جمعية السيف ..يقول الشامي: حتى الكلمة ...يخاف الإمام من الكلمة في البدء كانت الكلمة نريد حرية التفكير والكلام ونعيش بسلام . لن نعيش بسلام إلا في بلد ينعم بخيرات العصر . نعم ..نعم ومن خيرات العصر حرية التفكير والكلام . ونريد طرقاً ومدارس ومستشفيات وجامعة وكهرباء ..يصمت الإرياني لبضع ثوان ..يرفع رأسه ..يقول : سمعت بأن كل ذلك موجود في عدن ..أسمع عن الكهرباء ..زرار تضغط عليه فيشع نوراً ..يقول الشامي : شاهدت كل ما قلت عندما هربت إلى عدن فلماذا لا يعمل كل ذلك الإمام ؟ لا فائدة ..لا أمل من الإمام ..لا أمل فينا الأمل ..فينا الأمل ..فينا الأمل . أنشأ الإرياني وجماعته جمعية القلم ..وزعوا المنشورات في زبيد وخارجها ..منشورات دعت إلى الحرية والإصلاح ..أرادوا أن تظل كلمتا الحرية والإصلاح مرفوعتين بعد سقوط صنعاء . فعلوا ما فعلوا وهم يعرفون بأن جمعيتهم قد ينكشف سرها ويصعدون إلى نافع ..سجن نافع الرهيب .. كانوا يعرفون إلا أنهم فعلوا ..فعلوا لينكشف سر جمعيتهم ليصعدوا إلى نافع ..يصعدوا إلى نافع ليصعدوا مع من سيصعدون باليمن إلى الحرية والدستور أن آجلاً أو عاجلاً.. (11) نجد ريمان.. يناير 1953م يقف عبدالله وعباس أمام عمتهم ..فاطمة الممددة على ظهرها ..بيت القاضي يكتظ بالرجال والنساء ..الكل جاء يسأل على صحتها ..تناقل الناس خبر مرضها ..تفتح عينيها بعد سبات عميق ..تقع عيناها على أولاد أخيها عبدالله وعباس وكأنها قد أرادت أن تقع عليهما ..تقول بصوت خافت (مبتسمة) : لماذا واقفان ؟ ..يجلس واحد على يمينها والثاني على شمالها ..يرفع كل واحد يداً ..يقبلان يديها قبلة طويلة ..كل واحد يقبل يداً من يديها ..تقول وعيناها على السقف: تقبلان اليدين اللتين أنفقت أموال والدكم وأموالكم . نعم نقبلها فقد أنفقتها في عمل الخير والصدقة على المحتاجين واليتامى . سامحني والدكم فهل تسامحوني ؟ نسامحك ولو لم نكن راضين لمنعنا كي. تمنعون عمتكم ؟ العفو..العفو ..نسامحك ولن نمنعك ..تتدحرج من عينيها دمعتين ..تقول بصوت (متعب) : أين بنات محمد علي محمد ؟ موجودات . أدعوهن ..تدخل نور ، سلطانه وحوريه ..تقول فاطمة : كيف حال أخوكن محمد ؟ ..ترد نور (باكية) : قالوا مريض بالسل ..تسأل عبدالله : نسيت أن أسألك ..متى وصلت من تعز ؟ أمس ..تقول العباس : لم تقل لي بأن محمد مريض بالسل . لم أشأ أن أزعجك . مسكين محمد بن محمد ..عاش يتيم والآن مريض بالسل وأين هو الآن ؟ في سجن القاهرةبحجة . مريض بالسل وفي السجن ..ظلم ما بعده ظلم ..تنهض جالسة ..تقول (بانفعال) : لماذا لم تتشفعان له عند الإمام ؟ الحمد لله على نهوضك ... يتهاوى نصفها الأعلى ..يسقط نصفها على الفراش وكأنه جذع شجرة ليسقط فجأة ..القوة التي أقامتها جالسة غير القوة التي أقعدتها ..الغضب أقامها والمرض أقعدها ..تقول (بحسرة): قلت ..لماذا لم تتشفعان ؟ فعلنا إلا أن لإمام لم يوافق . لم يوافق الإمام ..لم يوافق الإمام ..تصمت .. يقول عبدالله : أرسلت له من تعز العلاج والملابس ومصاريف. أجرك عند الله ..أجرك عند الله .. ترسل نظراتها إلى الحاضرين ..تحدق في السقف للحظات ..تقول : خشب السقف عشر ..وضعهن أخي محمد خشبه خشبه ..مسكين أخي محمد لم يعمر طويلاً ..حافظوا على خشب السقف ..وصيتكم بيت القاضي وبنات محمد علي والأرحام .. ملابسي ..أين ملابسي ..يحمل إليها عباس ملابسها المكوم داخل قطعة قماش ..تقول : افتح ..وناولني ملابسي قطعة ..قطعة ..لم تستطع أن ترفع يدها ..يضع القطعة الأولى على يدها ..تقول : هذه لبنت أحمد علي ..بنت عايض ..لبنت الدعوس لبنت.. لبنت.. البنت.. لماذا أيدي فاضيه ؟ لم يعد لديك ملابس . وما ألبسه لبت صالح وبنات محمد علي ..بنات عمكم عليكم. حاضر ..حاضر ياعمه ..تغمض عينيها للحظات تفتحها مفزوعة ..تقول (يائسة) : أدعوا لفاطمة بنت يحيي محمد ..ادع لمرتك يا عباس ..تدخل ..تقول فاطمة بنت يحيي مُحمد : أخرجوا كلكم إلا فاطمة بنت يحيي محمد ..يخرج الجميع ..تقول: - هاتي يدك.. تضع يدها على يدها المسترخية على جانبها .. تقول: عديني أن تقرئي الفاتحة على روحي في كل جمعة . يطول الله بعمرك . قلت عديني . أوعدك ..أوعدك ..تقول: