أمس الأول، بحت له بحبي. كانت قبلتنا الأولى. أردت بعدها الانصراف لألملم هفوتي. لكنّه هدّدني. قال إنّني لا أستطيع أن أرحل. أبعد قبّة قميصي الأبيض ليزرع توتة بنفسجية على جيدي، فأزهر كلّ جلدي. صرت شجرة ورد برّية: بنفسجاً وتوتاً وياسميناً ... بعدما اكتملت الباقة أفرج عنّي، كي يشتاق إليّ، فيحبّني أكثر. في الشارع تساقط مطرٌ ربيعيٌ قصفَ، برغم رقّته، البراعم التي حلمتْ أن تصير كرزاً يندى حلاوةً. كم كان قاسٍ ذلك الربيع الذي جمعنا! عندما أهديتُ إليه شفتين فجّتين ليقطفهما! كان شركاً لكلينا. أمس الأول. الربيع. انحنت براعم الحبّ فسحقتها قطرة ضلّت غيمتها.
غداً، ستتراكم الثلوج، ليبتهج الطفل ذو العينين السوداوين، ويصفّق بيديه البضّتين، كما يخفق جناحا طائر. سيركض أمامي، ذلك الذي يزورني في الأحلام، كي يرضع حليبي الساخن، أو يسمع أغنية وحكاية. سيركض مندفعاً نحو هضبة بيضاء. يأخذ حفنة ثلج ويرميني بها ضاحكاً... حينئذ ستكون اللحظة المناسبة كي أبوح إليه بالسرّ، الذي ينبت كشجرة صبّار بين رئتيّ، آلمتهما كلما تنفّست. سأطلب منه أن يسامحني لأنّني مشيت نحو غرفة الإجهاض، ودخلت إليها، وتمدّدت على السرير الجلدي المعقّم. غداً. الشتاء. بهجة الثلج قد تمتصّ رهبة الاعتراف والغفران.
أمس، لاحت في أفق ذلك الصيف القصير جداً كصيفٍ بريطاني، اللحظة الخريفية التي سيكون علينا فيها أن نفترق. بينما كنت أدفع حرارتي من مسامّي إلى مسامّه، قلت له إنّنا سنرزق طفلاً بعد سبعة أشهر. لم يزجرني ولم يهدّدني. قال صمته إنّ عليّ أن أرى طبيباً. أعاد ما قاله مرّات ومرّات: ( إننّا من عالمين مختلفين، من قطبين نقيضين، وأنّ الأقطاب لا تلتقي، وأنّ العشّاق الحقيقيين لا ينجبون من معشوقاتهم، كي يبقى الحبّ وهماً لا يمسّه أحد ولا شيء). تركني أمضي وحدي إلى الغرفة. وانتظرَ أن أخرج وحدي. كم كانت الطريق إلى تلك الغرفة طويلة!! تخيّلت طريقاً مرصوفة بالأشجار المثمرة، تغمرها شمس نادرة، تخترق جسدي وتدفئ ماءه. طريقاً طويلة ينتظرني في آخرها شخص واحد. إما الأب أو ابنه. فمن أريد؟ عندما شهر الطبيب الآلة التي سيفقأ بها "الكيس" الصغير حيث يعوم جنيني، عرفت من أريد. أمس. الصيف. النِّسام الدافئة داعبت الثمار الناضجة ووعدتها بزغاريد الحصاد.
اليوم، الخريف، يرحل. تعود الأشواك لبثّ سمومها في دمي. تحاول تمزيق لبّ الكرز. يرحل. يأخذ مسامّه معه. لكن، ينسى رائحته في شعري، وذرّةً صغيرةً أسفل شجرة الصبّار. ينسى يوم قلتُ إني أريد طفلاً منه كي لا يُهدر هذا الحبّ سدى. كان عليّ أن أبرّر ما فعلتُه بالأمس. لكنّي خرستُ. ربطَتْ لساني لحظةُ انتفاضي من السرير الجلدي، وصراخي في وجه الطبيب بكلمة واحدة وأخيرة :"لا". "لا" قوية جداً، أوقعتْ الآلة الحادّة من يده. اليوم، ينمو داخلي من سيقلع أشواك حياتي. أقول له:" هناك دائماً شيء يخرق الثوابت... فلا تصدّق ما يقال عن تعاقب الفصول، ونديّة الأقطاب، والثمار التي لا تخطئ مواسمها..." اليوم. الخريف. من بين أشواك الصبّار أجني الكرز.