خرج المهدي يتصيد، فغار به فرسه حتى وقع في خباء أعرابي، فقال : يا أعرابي هل من قرى، فأخرج له قرص شعير، فأكله، ثم أخرج له فضلة من لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه، فلما شرب قال : أتدري من أنا؟ قال : لا ، قال : أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة، قال : بارك الله لك في موضعك، ثم سقاه مرة أخرى فشرب، قال : يا أعرابي أتدري من أنا؟ قال : زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة، قال : لا ، أنا من قواد أمير المؤمنين، قال : رحبت بلادك وطاب مرادك، ثم سقاه الثالثة، فلم فرغ قال يا أعرابي : أتدري من أنا؟ قال : زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين، قال : لا، ولكني أمير المؤمنين، قال : فأخذ الأعرابي الركوة ورمى بها، وقال : إليك عني فوالله لو شربت الرابعة لادعيت أنك رسول الله، فضحك المهدي حتى غشي عليه، ثم أحاطت به الخيل، ونزلت إليه الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي فقال له : لا بأس عليك، ولا خوف، ثم أمر له بكسوة ومالاً جزيلاً. ووجد أعرابي يأكل ويتغوط ويفلي ثوبه، فقيل له في ذلك، فقال : أخرج عتيقاً وأدخل جديداً، وأقتل عدواً. وقيل لبعض الأعراب : إن شهر رمضان قدم فقال : والله لابددن شمله بالاسفار. وسمع أعرابي قارئاً يقرأ القرآن حتى أتى على قوله تعالى : ( الأعراب أشد كفراً ونفاقاً) “التوبة 97” فقال : لقد هجانا، ثم بعد ذلك سمعه يقرأ : ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) “التوبة :99” فقال : لا بأس هجا ومدح. هذا كما قال شاعرنا : هجوت زهيراً ثم إني مدحته ومازالت الأشراف تهجي وتمدح وحضر أعرابي على مائدة يزيد بن مزيد فقال لأصحابه : أفرجوا لأخيكم، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بإفراجكم إن أطنابي طوال يعني سواعده، فلم مد يده ضرط، فضحك يزيد وقال: يا أخا العرب : أظن أن طنباً من أطنابك قد انقطع. وشوهد أعرابي يغطس في البحر ومعه خيط، وكلما غطس عقد عقدة، فقيل له : ماهذا ؟ قال : جنابات الشتاء أقضيها في الصيف. وسرق أعرابي غاشية من على سرج ثم دخل المسجد يصلي فقرأ الإمام : (هل أتاك حديث الغاشية) “ الغاشية:1” فقال : يافقيه لا تدخل في الفضول فلما قرأ : (وجوه يومئذ خاشعة) “الغاشية:2” قال : خذوا غاشيتكم ولا يخشع وجهي لا بارك الله لكم فيها ، ثم رماها من يده وخرج. وحضر أعرابي مجلس قوم فتذاكروا قيام الليل، فقيل له : يا أبا أمامه أتقوم الليل؟ فقال : نعم ، قالوا : ماتصنع ؟ قال : أبول وأرجع أنام. وسرق أعرابي صرة فيها دراهم، ثم دخل المسجد يصلي، وكان اسمه موسى، فقرأ الإمام ( وما تلك بيمينك ياموسى) “طه:17” فقال الأعرابي: والله إنك لساحر ثم رمى الصرة وخرج. وحكى الأصمعي قال : ضلت لي إبل، فخرجت في طلبها، وكان البرد شديداً، فالتجأت إلى حي من أحياء العرب وإذا بجماعة يصلون وبقربهم شيخ فالتجأت بكساء، وهو يرتعد من البرد وينشد : أيارب ان البرد أصبح كالحاً وأنت بحالي ياإلهي أعلم فإن كنت يوماً في جهنم مدخلي ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم قال الأصمعي : فتعجبت من فصاحته، وقلت : يا شيخ أما تستحي تقطع الصلاة وأنت شيخ كبير، فأنشد يقول : أيطمع ربي في أن أصلي عارياً ويكسو غيري كسوة البرد والحر فوالله لا صليت ماعشت عارياً عشاءً ولا وقت المغيب ولا الوتر ولا الصبح إلا يوم شمس دفيئة وإن غيمت فالويل للظهر والعصر وان يكسني ربي قميصاً وجبة أصلي له مهما أعيش من العمر قال : فأعجبني شعره وفصاحته، فنزعت قميصاً وجبة كانا علي ودفعتها إليه، وقلت له : البسهما وقم، فاستقبل القبلة، وصلى جالساً وجعل يقول : إليك اعتذاري من صلاتي جالساً على غير طهر مومياً نحو قبلتي فمالي ببرد الماء يارب طاقة ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي ولكنني أستغفر الله شاتياً وأقضيكها يارب في وجه صيفتي وإن أنا لم أفعل فأنت محكم بما شئت من صفعي ومن نتف لحيتي قال: فعجبت من فصاحته، وضحكت عليه وانصرفت.