إن أول سؤال يطالعنا ونحن بصدد الوقوف على تعريف للمعنى النحوي هو: هل كان هناك مكان للمعنى في الدراسات النحوية؟ بمعنى آخر: ما نصيب الدراسة الدلالية من تفكير النحاة الأوائل؟ إن سؤالاً كهذا يتطلب منا بالضرورة حديثاً عن مرحلتين هامتين طبعتا الدراسات اللغوية عامة والدراسة النحوية على وجه الخصوص، مرحلة التأسيس ووضع الأصول، ومرحلة النحو المؤسس الذي يشمل كلاً من المعنى والإعراب اعتباراً من أن هذا الأخير هو فرع المعنى. وإذا أردنا أن نقوم بتوطئة تاريخية، وجدنا أنه لما جاء الإسلام، وجد اللغة العربية قد استكلملت أدوات التعبير، وأصبحت قادرة على استيعاب جميع المعاني الجديدة، خصوصاً تلك التي كانت تمتاز بالصفاء والنقاء من لغة أهل وسط الجزيرة العربية لا لغة السواحل التي كانت متاخمة لأمم وشعوب أخرى كالفرس والروم، وهذه حقيقة تاريخية عجت بها كتب التاريخ، وكان من مخالطة العرب الفاتحين لهذه لشعوب والأمم أن فسدت الألسن وتفشى اللحن في أعز ما يملكه العرب، اللغة العربية، الإرث الحضاري والزخم التراثي الذي لا ينضب، وفي ذلك يقول أحدهم: «فلما كانت الفتوحات واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب التي كانت تحت سيطرة الفرس والبيزنطيين والأحباش ودخول كثير من هؤلاء في الإسلام واضطرارهم إلى تعلم ما استطاعوا من العربية، وكان من بين هؤلاء الفاتحين وهؤلاء الشعوب اختلاط وأخذ وعطاء، تسرب الفساد إلى لغة كثير من العرب وبدأ يسمع كثير من اللحن في التخاطب، قليلاً في الأول ثم أخذ في الانتشار حتى لفت إليه أنظار المسؤولين وغيرهم من أهل الحل والعقد(1)، إن النص هذا باعتباره صيرورة تاريخية لبوادر ظهور اللحن، يبرز الخطر الكبير الذي طال اللغة العربية وأصبح يتهدد كيانها، خصوصاً بعد الفتوحات الإسلامية التي كان لها الفضل كل الفضل في اعتناق كثير من الأمم الإسلام، فكان لزاماً على هؤلاء أن يتعلموا العربية حتى تترسخ قدمهم في مراقي الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى يزدادوا فهماً للإسلام والمسلمين. ولعل التاريخ الإسلامي يحوي من الشواهد والأمثلة الكثير على تفشي اللحن واللكنة ما يجعلنا نبجل الجهد الكبير الذي بذله علماؤنا ولغويونا الأجلاء في تقعيد اللغة وضبطها خوفاً عليها من الفساد، وحسبنا شاهدان فقط على ذلك، فقد ورد في كتاب الخصائص لابن جني قوله: «إن رجلاً لحن بحضرة النبي فقال: (أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل)، والشاهد الثاني وهو أخطر من ذلك وأشد، وهو أن أعرابياً قدم في خلافة عمر وقال: (من يقرئني مما أنزل على محمد؟) فأقرأه رجل سورة براءة بهذا اللحن (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) بكسر اللام، فقال الأعرابي: إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه)(2). إن هذين الشاهدين اللذين أوردناهما ليدلان على أن اللحن كان متفشياً حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الأعراب أنفسهم حيث لم تسلم ألسنتهم من الخطأ حتى في القرآن، إلا أن ظهور اللحن والفساد بصورة سافرة كان مع المسلمين غير العرب الذين صعب عليهم مجاراة اللسان العربي الفصيح الذي لا يضيق سلمه الصوتي على استيعاب جميع الحروف، بخلاف الموالي الذين نجدهم عاجزين عن نطق بعض الحروف كالحاء والقاف مثلاً، دون أن ينال ذلك من المعنى، لكن عندما يصيب اللحن الثوابت والضوابط العربية التي توارثها العرب آباء وأجداداً فإن ذلك يصبح أخطر لا على لغة العرب وحدها، بل على القرآن بصفته وعاء لها، فلحن بسيط كإبدال الفتحة كسرة مثلاً قد يؤدي إلى فهم أبتر يصل ذروته أحياناً كقول الأعرابي الذي سبق ذكره (أن الله بريء من المشركين ورسوله) فقد عطف (رسوله) على (المشركين) فكانت (رسوله) مجرورة. إذن من الطبيعي أن يكون القرآن السبب المباشر لظهور علم النحو «لأن النحو دراسة للتركيب اللغوي ورصد للظواهر الإعرابية الناجمة عن القرائن اللفظية التي سميت فيما بعد بالعوامل النحوية، فقراءة القرآن تعتمد اعتماداً بارزاً على تغير أواخر الكلمات أي الإعراب، وقد ظهر اللحن أول ما ظهر في القضايا الإعرابية(3). فقراءة القرآن لا بالنسبة إلى العربي القح ولا بالنسبة إلى الموالي، لا يمكن أن تتم دون أدنى مراعاة للقواعد النحوية والعلامات الإعرابية، فتغيير هذه الأخيرة هو تغيير لمعنى بأكمله وفي هذا إثم كبير وجناية عظمى على المتن القرآني. ونحن لسنا هنا بصدد التأريخ لنشأة النحو أو للظروف التي أحاطت به، بقدر ما نريد أن نشير إلى أن تقعيد اللغة العربية كان بدافع الغيرة والخوف عليها من الفساد واللحن الذي من شأنه أن يهز فصاحتها وبلاغتها التي تعتبر الميسم الذي يسمها ويميزها عن غيرها من اللغات. إن هذه التوطئة تجعلنا نسلم بأن جهود علمائنا ونحويينا الأوائل كانت منصبة أساساً على تعليم القواعد وتلقينها للمتعربين حتى يسهل عليهم التمكن من اللغة العربية، فيقل اللحن ويعود لهذا اللسان رونقه وصفاؤه، أما الحديث عن واضع النحو العربي فتلك مسألة لا تخصنا في شيء مادام الأمر يتعلق بالإجابة عن سؤال المعنى وحضوره في الدراسة النحوية. ويجب التنبيه إلى كون الدراسة الدلالية في المرحلة الأولى مرحلة التأسيس لم تكن ذات أهمية، وإن وجد هناك حديث عن المعنى فإنما هو المعنى النحوي الوظيفي الصرف «إنه معنى الأبواب النحوية كالفاعل ونائبه والمفعول والحال والتمييز والمستثنى والمضاف إليه والنعت والبدل والمبتدأ والخبر... وهذه المعاني تحرصها قرائن صوتية كالعلامة الإعرابية ونغمة الكلام، أو صرفية كالبنية الصرفية والمطابقة والربط والأداة، أو تركيبية كالتضام والرتبة، ومعنى هذا أن الأبواب النحوية وظائف تكشف عنها القرائن أو بعبارة أخرى معان وظيفية للقرائن المستمدة من الأصوات والصرف والمماثلة في التركيب والسياق»(4). فالفاعل النحوي ليس هو الفاعل الدلالي، بمعنى أن هذا الفاعل لا يخرج عن ثلاث قرائن: صرفية وصوتية وتركيبية وليست دلالية. فالجملة الآتية مثلاً: (ضرب زيد عَمْراً) يدرسها النحوي على الشكل الآتي: (ضرب) فعل ماض و(زيد) فاعل و(عمر) مفعول به، بمعنى آخر إن جملة (ضرب زيد عَمْراً) لا تفيد النحوي في شيء إلا في الوظائف التي تؤديها كل كلمة على حدة. وإذا انطلقنا من كون النحاة تعاملوا مع الكلمة التي تتشكل منها الجملة، فإن ذلك لم يكن عبثاً وإنما كان لاعتبار هام جداً هو أن الجملة الواحدة يسهل ضبطها وحصرها، في حين إذا تجاوزنا الجملة إلى بعد فوق جملي، فإن ذلك يصعب معه ضبط اللغة العربية، وما دمنا نتحدث عن الكلمة المفردة في علاقتها بكلمة أخرى داخل النسق الجملي، فإن الحديث عن معنى دلالي يغدو شبه مستحيل، ومن ثم يتحدد التمايز بين علم النحو وعلم المعاني. إلا أن تمام حسان عندما تحدث عن هذا التمايز بين علم النحو وعلم المعاني منطلقاً من فكرة أساس مفادها: كون الأول يتعلق بالجملة في علاقاتها بجمل أخرى داخل البنية النصية فإنه أغفل الفرق الأساسي بين العلمين وهو الرأي الذي انتقد بشدة انطلاقاً من كون التنافر بين العلمين لا يغدو محدداً أساسياً ينبغي الاستناد إليه «فاختلاف النحو والمعاني في بعض الموضوعات واتفاقهما في البعض لا ينبغي أن يخدعنا فنغفل عن الفارق الأساسي وهو أن النحو يدرس أعمال الواضع، والمعاني أعمال المتكلم»(5). بعبارة أخرى إن النحو في تعامله مع جملة ما لا يدرس معناها بقدر ما يدرس الكلمة الموضوعة بما هي اسم وفعل وحرف. أما دراسة المعاني فتلك من اختصاص المتكلمين الذين يدرسون الكلام والمتكلم فينتقلون من الجملة الواحدة إلى ما فوق الجملة أي إلى النص. لكن ما موقع المعنى من دراسة النحوي للجملة؟ إن سؤالاً كهذا يجعلنا تائهين بين ثلاثة تعريفات للمعنى، فهل نحن بصدد تعريف نحوي للمعنى؟ أم بصدد تعريف معجمي للمعنى؟ أم أننا في الأخير أمام تعريف دلالي؟