كانت المملكة دكاناً صغيراً مساحته لا تتجاوز الأمتار الثلاثة طولاً وعرضاً وكانت كل محتويات هذه المملكة ثلاجة من النوع الأمريكي الذي يعود طرازه إلى الخمسينيات من القرن الماضي وبعض الكراسي الطويلة وأمامها مناضد مرتفعة. كان صاحب ذلك الدكان مشهوراً بحذقه في إعداد الشفوت الذي يقدمه في طاسات صغيرة وكذلك السلطة التي تقدم أيضاً في طاسات من نفس الحجم، أما حذقه في إعداد شراب الشعير وتقديمه في أكواب تعلوها مكعبات الثلج ومثله شراب الفيمتو الأحمر القاني تتراقص فوقه مكعبات الثلج فيغريان الزبون بالشرب والتمتع ببرودة الشراب والحديث الساذج والمريح بين الزبائن وصاحب الدكان الماهر أيضاً في الدخول معهم في حديثهم الساذج ومزاجهم الهادىء المريح خاصة وانه يكون قد رش الأرضية (الأرض الترابية) بالماء فتلطف الجو هي أيضاً مشتركة مع مروحة كهربائية قديمة معلقة في السقف ترسل نسمات باردة ومنعشة في أرجاء المحل الصغير فيدخل الجميع في حالة من الراحة بعد ان يكون كل واحد من الزبائن قد قضى عمله في الجزء المزدحم من مدينة تعز الصغيرة ولم يعد عليه إلا أخذ قسط من الراحة والمتعة قبل مواصلته ورحلة العودة إلى مدينة تعز القديمة . أصبحت هذه عادة أصحاب المدينة القديمة حتى ان الرجل أصبح يمثل جزءاً مهماً من حياة كل واحد منهم، واستمر الأمر على هذه الوتيرة لا يقطع سكونه شيء من مدة لا أعرف مداها قبل الثورة وحتى منتصف السبعينيات أو آخرها من القرن الماضي. ولكن الحياة بدأت في التغير بشكل سريع وبإيقاع أعلى وأسرع حتى أنه أخذ كل واحد من ذاته وكان عليه التكيف مع نمط الحياة السريع والمربك وقدر الرجل على الحفاظ على ذلك الجزء المهم من حياتهم الذي يربطهم بماضيهم الهادئ والمريح وظل يقف في مملكته الصغيرة التي كانت ملاذ كل طالب للراحة والمتعة الهادئة البريئة. ولكن سيل الحياة الجارف بدأ من بعيد يؤثر على ذلك الركن من غير ان يشعر احد بذلك فالجميع قد أخذتهم الحياة وأربكتهم وبددت سكون حياتهم وكان الرجل مازال يعيش في نفس نمط الماضي ويقدم إليهم نفس طاسات الشفوت والسلطة والمحلبية مع الملاعق الصغيرة وشراب الشعير أو الفيمتو، أي إنه استطاع لفترة طويلة من الزمن ان يظل ملتصقاً بماضيه ويشكل بالنسبة لسكان مدينة تعز القديمة جزءا من ماضيهم الجميل فيلجئون إليه كلما أزعجتهم الحاجة، حتى سقطت عليه بلية عظيمة من حيث لا يحتسب فقد كان المبنى القديم ملكاً لسيدة من سيدات المجتمع المخملي في تلك الأيام وكان لهذه السيدة أخ يدرس في القاهرة حتى انتهى من دراسته وعاد إلى اليمن يحاول أن ينظم لأخته مصالحها وأعمالها فنصحها ببيع المبنى القديم بعد زيادة الأجور على أصحاب الحوانيت التي تقع أسفل المبنى. طلب جميع المستأجرين للتفاوض من أجل زيادة الأجور وكانت الزيادة عدة أضعاف الإيجار السابق، وحل الجميع مشاكلهم ولم يبق إلا صاحب الدكان، لم يكن صاحبنا يجيد عمل أي شيء خارج مملكته فبدأ في تكرار الرحلة يومياً إلى مقيل صاحب المبنى وكانت الرحلة مهينة له ولكن كان يجب عليه أن يواصلها يومياً وأن ينتظر ساعات حتى يبدأ حديثه مع المالك الذي كانت الدنيا قد أقبلت عليه بكل غوايتها وسفاهتها. كان المالك يتكئ في مكانه المعتاد في أعلى المقيل وكان المستأجر الذي لم يحسب حساب هذه اليوم العبوس الغليظ فلم تكن صنعته لتسمح له بأن يراكم ثروة أو حتى ذخراً يكفيه مصائب الأيام، ولم يكن يستطيع أن يدفع ما يطلبه المالك فكان يضطر إلى إراقة ماء وجهه يومياً ولم يكن يعرف ان من ضمن هوايات المالك أو الأشياء المحببة إلى قبله هو ان يستمر أحد الناس في الطلب حتى يستمر هو في الرفض وهكذا كان على جميع من يحضروا لتناول القات ان يقضوا ساعات مؤلمة في مشاهدة مسرحية متكررة سوداء من الاستجداء الضعيف والرفض المستكبر. كان عليه ان ينصرف يومياً حتى يعود في اليوم التالي لتكرار نفس المشهد المؤلم من الاستجداء والترجي من جهة المستأجر والرفض والتنطع من جهة المالك وكان يخيل للجالس ان المالك النهم يلوك مستأجره بين أوراق القات التي في فمه حتى يزيد من متعته، المهم انه كان لا يمل من الرفض وصاحبنا بين فكي رحى الحاجة وعدم القدرة لا يكف عن المواصلة. تطور الأمر بعد ذلك وانتقلت القضية إلى المحافظة وبعد محاولات بائسة كثيرة استخدم صاحبنا آخر واضعف أسلحته فقد أطلق تهديداً بانه لن يغادر الدكان إلا قاتلاً أو مقتولاً وهكذا كشف الصراع غير المتكافئ اللثام عن وجهه القبيح مرة واحدة فصاحبنا ليس له أهل يدفعون عنه وقد تخلى عنه زبائنه مثل أشياء كثيرة قدموها قرباناً لطاحونة الحياة القاسية وصاحبنا نحيل عيناه غائرتان وعظام وجهه بارزة ووجهه أصفر وساعديه نحيلين وأصابع يده تبدو كأنها مخالب طائر والدنيا تولي عنه مسرعة تاركة أياه لخصمه القوي بدنياً ومادياً واجتماعياً، وصاحبنا متقدم في السن وخصمه في ريعان شبابه وأوج قوته. اعتبر الملك أن ماقاله المستأجر هو الشرارة التي انطلقت معطية الإذن بكل ما سيتلوها من أحداث، غضب المالك الشاب وكيف لا يغضب وعنده كل ما يمكنه من صب جام غضبه على أجيره والدنيا بين يديه يأتيها من حيث يشاء، سأله باستغراب: ومنذ متى تعلمت القتال؟!!وقبض على أذن أجيره الضعيف حتى أوصل رأسه إلى موضع حذائه الايطالي الأنيق وبدأ يصفع وجه العجوز الحائر صفعات قاسية متعاقبة ولم يكلفه ذلك كثير عناء فليس هناك ما يخاف منه فهو في ذلك المكتب في المحافظة معززاً مكرماً، لقد كرر صفعاته حتى أسال الدم من أنف خصمه. لم يكن المالك الشاب يعرف انه حين يصفع وجه خمصه العجوز كان يضرب أعماقه وكان يعتدي على روحه وقلبه ويزلزل بيده القوية أركان كرامة خصمه التي أودعها أياه خالقه، وما ان اكتفى من الضرب حتى كان قد قضى على كل ما كان يغري خصمه بالتعلق بالحياة. انسحب بصمت وولى حائراً لا يدري إلى أين تجره قدماه، ولم يعد هناك شيء يغريه على البقاء على قيد الحياة !! فمات. لقد مات بعيداً وبصمت بعد ان سلبت منه مملكته الصغيرة التي كانت تتكون من حانوت صغير وثلاجة وبضع كراسي والقليل من شراب الشعير الذي تعلوه مكعبات الثلج.