أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم أبوعبدالله الخزاعي، من أشراف بغداد ، وجده مالك أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة، كان أحمد من أهل الحديث وكان يخالف من يقول بخلق القرآن، ويقدح في الخليفة الواثق بالله في أيامه، وبلغ من أمره أن بايع له جماعة في بغداد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأراد بهم الخروج فعلم به الواثق فقبض عليه(1). وكان أحمد بن نصر من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكان ممن يدعون إلى القول بأن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً اعتماداً على مكان عليه أبوه قبله وعمه المأمون من غير دليلٍ ولابرهان ولاحجة ولابيان ولاسنة ولاقرآن، فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في أشياء كثيرة دعا الناس إلها، فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد والتف عليه منهم الألوف. فلما كان شهر شعبان من سنة 231ه انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها، فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان وهي ليلة الجمعة يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبوهارون في أصحابهما ديناراً ديناراً، وكان من جملة من أعطوهما رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب، فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدوا أن تلك الليلة الموعد وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبلٍ في الليل ليجتمع إليهما الناس فلم يجئ أحد. وانخرم النظام وسمع الحراس في الليل فأعلموا نائب السلطنة وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان نائباً لأخيه اسحاق بن إبراهيم لغيبته عن بغداد ، فأصبح الناس متخبطين واجتهد نائب السلطنة على إحضار هذين الرجلين فأحضرا، فعاقبهما، فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادماً فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان، فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي دواد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتباً، فلما أوقفا أحمد بن نصر بين يدي الواثق ولم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك قوله، وقال: ماتقول في القرآن؟ فقال: هو كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها، فقال له: ما تقول في ربك أتراه يوم القيامة؟ فقال يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك قال الله تعالى(وجوه يومنذٍ ناضره إلى ربها ناظرة) وقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لاتضامون في رؤيته) قال الواثق: ويحك أيرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر وأنا أكفر برب هذه صفته، قلت: وماقاله الواثق لايجوز ولايلزم ولايرد به هذا الخبر.. فقال الواثق لمن حوله: ماتقولون في هذا الرجل؟ فقالوا هو حلال الدم!! وقال أبوعبدالله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داود اسقني دمه يا أمير المؤمنين.. فقال الواثق: لابد أن يأتي ماتريد، وقال ابن أبي داود: هو كافر يستتاب لعل له عاهة أو نقص عقل!! فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي، ثم نهض إليه بالصمصامة، وقد كانت شيئاً لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلالفته وكانت صحيفة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير، فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعاً على النطع ميتاً. ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه، وحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج من قيود وعليه سروايل وقميص وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياماً وفي الغربي أياماً وعنده الحرس في الليل والنهار، وفي أذنه رقعة مكتوب فيها (هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي ممن قتل على يد عبدالله بن هارون الإمام الوثاق بالله أمير المؤمنين، بعد أن قام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمدلله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه)(2). ثم أمرالواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحواُ من تسعة وعشرين رجلاً، فأودعوا في السجون وسموا(الظلمة) ومنعوا أن يزورهم أحد، وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الارزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم. وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين، القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسمع الحديث عن حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهاشم بن بشير، وسمع من الإمام مالك بن أنس وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال رحمه الله: (ماكان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له)(3) وتذكر بعض الروايات أن رأس الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي حمل إلى بغداد بعد قتله وصلب بها وصلبت جثته في سُرَّ من رأى، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه، وقيل إن الواثق صرف رأسه عن القبلة حين كان مصلوباً. وقد رويت في ذلك روايات عديدة فقد ذكر الموكل به أنه رآه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه فيقرأ سورة يس بلسان طلق(4). الهوامش 1 - تاريخ الاعلام للزركلي 263/1 2 - تاريخ الخلفاء للسبوطي270 3 - كواكب يمنية في سماء الاسلام عبدالرحمن طيب بعكر 27 4 - تاريخ الخلفاء للسبوطي270