الرسالة السادسة إلى منظمات المجتمع المدني إلى متى ستظلون مجرد كلمة حق يراد بها باطل..؟ الكثير من الأشياء العظيمة في حياة الأوطان والأمم وحتى الإنسانية مجتمعة كالحرية والديمقراطية والاشتراكية والقومية والثورة والجمهورية والوحدة وحتى التعددية الحزبية بما في ذلك منظمات المجتمع المدني كثيراً ما يتم محاربتها بالمنع والحظر المباشر عليها، باعتبار الحرية مروقاً وفوضى، والديمقراطية خروجاً عن المألوف، والاشتراكية كفراً، والقومية والثورة والجمهورية بدعاً منافية للدين، وكذلك هي الحزبية كخيانة، ومنظمات المجتمع المدني كبدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، إلى غير ذلك من كل ما يحفل به القاموس الرجعي المتخلف والفهم المغلوط والمشوه للدين والدنيا، دفاعاً عن مصالح متخلفة واستزادة منها كما سبق وأن أوضحنا, غير أن ما هو أسوأ وأخطر من الرفض والمحاربة الصريحة لمثل هذه الأشياء العظيمة التي ضحت البشرية من أجل تحقيقها بالكثير والكثير عبر العصور هو أن تمسخ وتفرغ من مضمونها الإيجابي حينما يعجز أعداؤها عن منعها فيلجأون إلى ما هو أخطر من المنع وهو المسخ والإفراغ من المضمون، بل وتحويلها إلى عكس مضمونها أو إلى مجرد كلمات حق يراد بها باطل في أحسن الأحوال، كديمقراطية ال99.9 % عند الحكام العرب الذين منهم من لقى حتفه بما صنعت يداه ومنهم من هو سائر حتماً إلى نفس المصير لأن «من اصطبح بالكذب ما تغدى به» قرب الوقت أم بعد، وهذا هو ما نود توضيحه بالنسبة لعلاقة السلطة والمعارضة بمنظمات المجتمع المدني في اليمن وعلى النحو الآتي: أولاً: تقاسم السلطة والمعارضة لمنظمات المجتمع المدني. 1. من التحريم إلى المسخ والتدجين من الداخل. إذا كان المجتمع المدني ومنظماته المدنية في اليمن وأبرز قطاعات أغلبيته الصامتة هو ما نود تسليط الضوء عليه في هذا الصدد كنموذج، فإن أول ما يمكن تذكره أو التذكير به هو أن الكثير من منظمات المجتمع المدني في اليمن قد كانت حتى قيام الثورة في شمال الوطن على الأقل من بين محرمات النظام الإمامي المتخلف ومن عمل الشيطان الرجيم، فلا نقابات ولا اتحادات ولا جمعيات ولا أية تجمعات من أي نوع، ناهيك عن الأحزاب السياسية. أما بعد الثورة المباركة والاستقلال فقد ازدهرت منظمات المجتمع المدني في جنوب الوطن والتي تأسست في ظل الإدارة الاستعمارية البريطانية وتعاظم دورها السياسي والوطني بعد الاستقلال، كما بدأت في البروز العلني لأول مرة في شمال الوطن، ولم يعد في إمكان السلطات السياسية قبل الوحدة ولا بعدها أن ترفض أو تتنكر لهذه المنظمات, لكن خشيتها السياسية منها جعلها تميل إلى ما هو أخطر من الرفض والحظر، وهو الاحتواء والمسخ الذي يمكن أن يزايد على الاحتفاظ بالشكل المفرغ من أي مضمون، خصوصاً بعد إقرار التعددية الحزبية كأساس للعلاقة بين السلطة والمعارضة بعد الوحدة من الناحية النظرية على الأقل, حيث أجهزت كل من أحزاب السلطة وتحالفاتها والمعارضة وشركائها على منظمات المجتمع المدني وأفرغتها من مضمونها عملياً، مع الإبقاء على مسمياتها الاجتماعية شكلياً (اتحادات, جمعيات, نقابات, نوادي,...إلخ) شكلاً بغير مضمون، وبوسائل متعددة أهمها الاستقطاب الحزبي والأمني بالنسبة للسلطة، إلى جانب التفريخ الشكلي لمسميات خالية من المضمون أو حتى الوجود الفعلي على أرضية الواقع، بغرض المزايدة السياسية وقطع الطريق على الآخر وتفتيت القطاعات النقابية الهامة في منظمات المجتمع المدني وتقاسمها بين أطراف السلطة والمعارضة كنقابات العمال والمعلمين والأطباء والطلاب ...إلخ. إضافة إلى الباب المخلوع في وزارة الشئون الاجتماعية والذي يمنح التصاريح لكل من هبّ ودبّ لأسباب شخصية أو مغرضة أو مجرد خلق غثاء يجعل من مثل هذه المنظمات حالة من المسخ الذي لا يشجع أو يقنع أي جهود خيرة ووطنية على العمل والانتماء لهذا الوسط المدني الذي يقوم اليوم على مستوى العالم بأبرز الأدوار الوطنية والتاريخية في التنمية والسلم الاجتماعي وتعزيز الحقوق المدنية، بينما أرادته السلطة والمعارضة في اليمن مجرد مسخ سياسي تابع لها، والنفخ فيه على المستوى الإعلامي في كل مناسبة وعلى مدار الساعة بكلمات حق يراد بها باطل، وعلى طريق من يقتل القتيل ويأكل لحمه ويمشي باكياً في جنازته، حيث لا ترى السلطة في من لا ينضوي تحت كنفها السياسي من منظمات المجتمع المدني إلا كيانات غير شرعية وغير قانونية تستحق العقاب، ولا ترى المعارضة في من لا ينضوي تحت كنفها من هذه المنظمات إلا كيانات عميلة للسلطة وأجهزتها الأمنية، وهكذا دواليك. 2. الابتزاز والتبعية للخارج. وتكتمل الصورة المؤسفة لواقع منظمات المجتمع المدني في اليمن كما هو في معظم أقطار الوطن العربي إذا ما أضفنا دور السفارات الأجنبية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية تجاه منظمات المجتمع المدني كثالث ثلاثة في التقاسم غير المشروع لمنظمات المجتمع المدني بعد السلطة والمعارضة السياسية الحزبية، بل وربما أكثرها خطورة، لأن احتواء منظمات المجتمع المدني في اتجاه الداخل كسلطة أو معارضة هو أهون وأقل خطورة بكثير من الاحتواء والتبعية للخارج، خصوصاً مع وجود فتات المال الأجنبي المغري من هذه المنظمات وغياب الرقابة الداخلية التي تنظم علاقة الداخل بالخارج فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني وغيرها من شئون علاقة الداخل بالخارج بشكل عام على المستوى الوطني، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بعد أن أصبح حاميها حراميها مع الأسف الشديد. 3. الأسوأ هو أن تقبل منظمات المجتمع المدني بمثل هذا الوضع. أما الأسوأ من كل هذا وذاك فهو أن تقبل منظمات المجتمع المدني نفسها بمثل هذا الوضع المشين الذي لا يفقدها دورها الإيجابي تجاه نفسها والآخرين فحسب بل ويجردها من هويتها الاجتماعية والوطنية كهمزة وصل وتواصل خلاق بين بنية المجتمع الفوقية وقاعدته الاجتماعية والشعبية الواسعة, وإذا كان لدى الآخرين من المصالح الضيقة ما يبرر إصرارهم على تقاسمها على نحو ما سبق فما من مبرر قط يجعل مثل هذه المنظمات تقبل باستمرار تقاسمها واستخدامها كمجرد كلمات حق يراد بها باطل على هذا النحو بعد الآن. ثانياً: دور منظمات المجتمع المدني الداعم للسلطة والمعارضة والشريك الفاعل في التنمية. بذلك نستطيع القول بالخلاصة أن ثلاثي القسمة «الضيزا» لمنظمات المجتمع المدني في اليمن بين أحزاب السلطة والمعارضة والسفارات والمنظمات الدولية، وقبولها بمثل هذا الوضع المشين هو أمر لم يعد يفسد على هذه المنظمات دورها البالغ الأهمية في البناء والتنمية فحسب بل وحرم المتقاسمين بغير حق لهذا المكون الاجتماعي البالغ الأهمية من دور داعم وشريك حقيقي لا غنى عنه في بناء المجتمعات المدنية الديمقراطية الناهضة، وهو الدور المغيّب الذي لا يمكن أن تقوم به أية سلطة أو معارضة أو دعم خارجي مهما ادعى أي منهم لنفسه ذلك، وهو الدور الحقيقي لمنظمات المجتمع المدني غير المعنى قط بامتلاك سلطة سياسية يدافع عنها، ولا دور معارضة سياسية كذلك يطمح من خلالها إلى الوصول إليها، بقدر ما هو معني بدور وطني ومجتمعي داعم ومعين لسلطة صالحة وناقد ورقيب عام على أخطائها أو معين ومناصر لمعارضة وطنية صادقة في وجه سلطة فاسدة أو فاشلة، وشاهد حق لهما في كلما هو صواب، وعليهما فيما كل ما هو خطأ في حق الوطن والمواطن، وهو النصير الذي لا يقهر في حماية ونصرة الوطن عند الشدائد والمحن، حينما تعجز الدولة أو تفشل في ذلك «سلطة كانت أو معارضة» عوضاً عن الدور المهني الأول والأساس لهذه المنظمات في خدمة أعضائها كل وما تأسس من أجله وتعزيز بناء المجتمع واستقراره وسلمه الاجتماعي من خلال ذلك في قاع المجتمع وأوساط سواده الأعظم حيث لا تستطيع أن تصل إليه أية سلطة أو معارضة، أو برامج عمل وتنمية داخلية أو خارجية خاصة أو عامة مهما ادعت لنفسها ذلك، هناك حيث تعيش أبسط أسرة في آخر قرية ريفية أو حارة في أبسط مدينة ثانوية، وتحلم بشربة ماء نقية وفرصة عمل شريف وخدمة صحية جيدة والتعبير عن الحقوق والدفاع عنها، وتلبية لما لا يحد من تفاصيل احتياجات الحياة المادية والروحية البسيطة في شكلها المادي والمعنوي والكبيرة جداً في دلالاتها الاجتماعية والإنسانية، بدءاً من التعارف على إماطة الأذى عن الطريق وإفشاء الكلمة الطيبة بين الناس مروراً بتعاون ومواساة الناس لبعضهم البعض في السراء والضراء، وصولاً إلى تحقيق أعظم المنجزات الاقتصادية والتنموية المرتبطة بحياة الناس الخاصة والعامة، وانتهاء بدرء المخاطر عنهم وعن الوطن بأسره عند الشدائد، والمجسد كل ذلك في ضوء الحقائق والنماذج الآتية: 1. العمل التعاوني كنموذج للشراكة المجتمعة والمدنية الفاعلة في التنمية. ومن لم يستطع أن يتخيل يقيناً دور منظمات المجتمع المدني في التنمية وحقيقته على الأرض فما عليه إلا أن يتذكر دور هيئات التعاون الأهلي للتطوير في اليمن في عقدي السبعينيات والثمانينيات وما أحدثته من ثورة اجتماعية تنموية وأخلاقية في حياة الناس في بث لروح التعاون الطوعي للمصلحة المشتركة، ونكران الذات والحد من العصبية والقبلية وثقافة الكراهية والثأر، وتعزيز مبدأ القبول بالآخر من خلال التأسيس الحقيقي لأول تجربة ديمقراطية حقيقية في اليمن المعاصر، والتي ارتكزت عليها أنظمة وممارسات الانتخابات التعاونية على مستوى الجمهورية, وهي الثورة الاجتماعية والثقافية التي لا تقل أهميتها في تنمية الإنسان وتغييره نحو الأفضل عن أهمية إنجازها الأعظم على الصعيد التنموي في المجالات المتعددة بتعدد احتياجات المجتمعات المحلية، من طرق تجاوزت أطوالها الخمسين الألف كيلو متر في أنحاء اليمن، وفي أكثر مناطقها وعورة وعزلة، حيث ما كان لأي جهد رسمي أو دولي أو خاص أن يصل إليها في أعماق الريف وجباله الصعبة، وفك العمل التعاوني المدني بذلك عزلة اليمن الجغرافية الداخلية والخارجية لأول مرة، وقس على ذلك المدارس ومشاريع المياه والصحة وغيرها من المشاريع الخدمية والإنتاجية المختلفة، ويكفي أن نتذكر ونذكر من لا يذكر أو لا يعرف بأن أول إمداد للمدن الرئيسية صنعاء وتعز والحديدة بمياه الشرب قد كانت مشاريع تعاونية عامة، في تلك المرحلة, وكل ذلك لا يزال شاهد حق على دور المجتمع المدني في التنمية، ودليل إدانة تاريخية على من تسببوا عن عمد في إجهاض هذه التجربة المدنية التنموية الرائدة نهاية الثمانينيات من ساسة الداخل والخارج. 2.انتصار الثورة والجمهورية في حصار السبعين هو انتصار المجتمع المدني. ذلك عن دور المجتمع المدني في التنمية عندما تتاح له الفرصة من قبل السياسيين أو يتركونه وشأنه على الأقل، أما عن دوره في نصرة الوطن عند الخطر ونجدته عن الشدائد فيكفي أن يتذكر شهود العيان وجنود النصرة من الكبار في حرب السبعين يوماً ويسأل الصغار عن تلك المعركة التي حسمت الصراع مع فلول الملكية والتحالف الرجعي العربي والاستعماري الدولي من ورائها لصالح النظام الجمهوري ووضعت نقطة النهاية للنظام الملكي المتخلف رغم حصاره لمدينة صنعاء العاصمة على مدى سبعين يوماً هي أيام ما يعرف بحرب السبعين أو حصار السبعين الذي انتصرت فيه صنعاء بمقاومتها الشعبية المدنية بالدرجة الأولى تحت شعار (الجمهورية أو الموت) وبالإسناد الجوي والشعبي المقاوم والمهاجم من بقية مناطق الجمهورية خلف خطوط الحصار، وبعد أن كان قد غادرها السياسيون ومعظم قادتها العسكريين وكان النصر للجمهورية والموت لأعدائها، ولذلك فإن هذه الملحمة التاريخية يجب أن لا يحكي أو ينسى التاريخ عدم تسجيلها باعتبارها ملحمة المجتمع المدني بالدرجة الأولى، بعد أن غاب عنها دور الدولة والسياسة والسياسيين وحتى القوة العسكرية المنظمة وقادتها بالذات إما خوفاً أو عجزاً أو استسلاماً. 3. زلزال ذمار كنموذج لتضامن المجتمع المدني عند الكوارث. أما نموذج النجدة والتضامن الاجتماعي للمجتمع المدني في اليمن عند المحن والكوارث الطبيعية فيكفي أن يتذكر الناس كارثة زلزال محافظة ذمار عام 1985م الذي قضى فيه المئات وتشردت آلاف الأسر بعد أن تهدمت مئات وآلاف القرى والمنازل، فهبّ الناس من بقية المحافظة وغيرها من المحافظات الأخرى المجاورة لاستيعاب وإيواء المتضررين في بيوتهم وبين أهلهم، وفوجئ منظمو مخيمات الإيواء من الداخل والخارج بعدم وجود من يلجأ إليها طوال المحنة وحتى بنيت منازلهم تعاونياً فيما بينهم وبين الدولة والمانحين، وعودتهم إليها من جديد. 4. التضامن الشعبي المدني الدائم والخاص. أما على مستوى الدور الخاص والمستمر للعمل التعاوني في الظروف العادية لدورات الحياة البشرية في الولاد والعرس والموت، والزراعية في الحرث والبذر والزرع والحصاد، ودورة الأعياد والمناسبات وما تحفل به من السلوك والفعل المدني التعاوني والإنساني الواسع، فقد كان ولم يزل هو قاعدة الحياة اليومية والموسمية في حياة الناس القروية والحضرية على السواء، فيما يعرف بالتعاون الشعبي بكل تفاصيله وتشعباته الممتدة بامتداد تفاصيل وتشعبات حياة الناس كل الناس في الريف والمدن، والذي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيله التي قد تبدأ ولا تنتهي والتي قد كتبت فيها وفيما قبلها من أشكال العمل التعاوني عشرات ومئات الرسائل والأبحاث العلمية والمقالات الاجتماعية التي يمكن الرجوع إليها لمن يرغب في التفاصيل. 5. العمل المدني هوية وجود وليس مجرد ثقافة مكتسبة من الغير. والأهم في ختام هذا الحديث في هذا الصدد هو أن ندرك أن المجتمع المدني ومنظماته ليست ثقافة غربية أو شرقية أو سلعة مستوردة من الآخرين كما يظن البعض، بقدر ما هي هوية اجتماعية ووطنية في كل مجتمع عبر تاريخ البشر جميعاً، وهي الأصل الذي تنبثق عنه كل أشكال البناء الفوقية للمجتمع من القوانين والتشريعات والنظم وحتى الدولة نفسها، وهي التي تبقى حينما تتعرض هذه البُنى السياسية والقانونية للضعف أو الانهيار، لأنها هي الضرورة الأولى لوجود الإنسان من أجل حماية نفسه وتلبية حاجاته المشتركة، شأنه في ذلك شأن بقية الكائنات الحية الأخرى، ومن المعيب أن لا تعطى هذه المنظمات دورها وهويتها، وأن تستمر في مجتمعنا كمجرد كلمة حق يراد بها باطل. وما يميز اليمن في هذا الصدد أن فاعلية التعاون والتكاتف الاجتماعي كأهم مظهر من مظاهر العمل المدني هو درجة فعالية هذا التعاون في اليمن أكثر من غيره، استناداً إلى طبيعة ظروفه المعيشية والبيئية الصعبة التي لا يتم التغلب عليها إلا بالتعاون والعمل الجمعي والمدني المشترك، والذي تميزت به أبرز خواص ومظاهر الحضارة اليمنية المزدهرة في الماضي وهو الضمان الأول لازدهار الحاضر والمستقبل. أستاذ علم الاجتماع- جامعة صنعاء