هل صحيح أن العالم كله يتآمر علينا، وأن الكل أشرار، وأن كل من ليس معنا فهو ضدنا..؟ أم أنها شماعة نعلق عليها كسلنا وإحباطنا وعجزنا عن اللحاق بركب الحضارة والتكنولوجيا.. هل الواقع أسود مظلم وأن الخراب والفساد في كل مكان، كما تقول أحزاب المعارضة عادةً أم أنه جميل ومستقر وملي بالإنجازات و يخلو من المنغصات، كما تُسِّوق له أحزاب الموالة والأحزاب الحاكمة. هل يمكننا أن نسقط وجهة نظرنا، التي تكونت من تجربة واحدة على بقية التجارب، ونظرتنا للناس بناء على موقف، حصل معنا من شخص واحد ليصير الناس كلهم شيء واحد. هل يمكن أن انتقد تصرفاً أو خطوة معينة قام بها شخص أو فكر أو تيار سياسي، دون أن يعني ذلك إنكار كل إنجازاته وكل حسناته. وهل يمكن أن يفهم هذا النقد على أنه نقد بناء أم بالضرورة أن يعني أني اختلف معه أو معهم بكل شيء، وأني من أعدائهم؛ كوني وجهت انتقاداً واحداً أو أكثر. هل يمكن أن تناقش رأيي في موضوع معين دون أن يصبح هذا الرأي تعريفاً سيئاً لشخصيتي بل ولكل من حولي. في الحقيقة.. إنه مرض التعميم الذي أصبح من أكثر الأمراض انتشاراً وفتكاً بين الشعوب العربية، وبلدنا الحبيب على وجه التحديد، فالمصابون بهذا المرض تجدهم دائماً ما يستخدمون كلمة “كل الناس“ ليثبتوا وجهة نظرهم ويريحوا ضمائرهم. فإذا سألت الموظف، لماذا تسرق؟ سيقول لك وبكل تأكيد، الكل يسرقون، وإذا سألت الطالب لماذا تغش؟ سيكون أول ما يقوله لك، الكل يغشون، بل سيشعرك أن الغش حق من حقوقه الدستورية الواجب عليه انتزاعها والحفاظ عليها، وإذا سألت المواطن العادي من ستنتخب في الانتخابات؟ سيقول لك كلهم نصابون. ليس هذا فقط، فمرض التعميم أصبح في كل مكان حتى وصل إلى خُطب الجمعة، فنجد بعض إن لم يكن أغلب الخطباء يصف الغرب عموماً والمسيحيين خصوصاً قائلاً: إنهم لا يعرفون سوى الخمور، وليس لديهم أخلاق، وليس لديهم أية صلة بالدين، ليس هذا فقط، بل يستطرد قائلاً: كلهم حطب جهنم، ومن ثم يختم هذا الخطيب بقوله: اللهم اقتل اليهود والنصارى.. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك. وكأن هذا الغرب شخص واحد ولون واحد، وتناسى هذ الخطيب أن الغرب ليسوا سواء، ومن الغريب أن نختزل كل ما صنعوه ضمن هذه النظرة الضيقة جداً، وهذا ليس كلامي أبداً، بل هو ما أخبر به رب العالمين فالمولى عز وجل يقول في سورة آل عمران: “” لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) “” وتناسى هذا الخطيب أيضاً أن المسلمين بالغرب ليسوا بالمئات، بل بالملايين فكيف لهذا الغرب أن يكون كله أسود.. مظلماً وسيئاً إلى هذا الحد. التعميم عند علماء النفس يصنف على أنه عائق من عوائق الإدراك الإنساني، الذي يمنع صاحبه من إدراك وفهم البيئة المحيطة به ومؤثراتها على الوجه الصحيح، وعادة ما يستخدمه الناس كوسيلة دفاعية ضد أي تأنيب للضمير، أو أي إحساس بالضعف والقصور، ولهذا نجد الأشخاص الذين تسيطر عليهم نظرية التآمر العالمي “التعميم” يحملون صوراً وقناعات وآراء ناقصة، أو حتى مغلوطة عن الكثير من الأشياء. في المقابل نحن لا نقول بأن الناس كلهم أخيار وصالحون، ولكننا مازلنا نقول إن الناس أجناس كما خلقهم الله، فيهم حامل المسك، وفيهم نافخ الكير.. فيهم الصالح والطالح.. فيهم الغشاش وفيهم الأمين.. فيهم من يتآمر علينا، وفيهم من يحاول مساعدتنا. والواقع والحياة مليئة بالكثير من الألوان والآراء المختلفة، وليس الأبيض أو الأسود فقط. يجب علينا أن نبدأ بالنظر إلى العالم بعدالة أكثر، وأن لا نبخس الناس أعمالهم، وأن نقيم الأشياء والأشخاص والحوادث تقييماً موضوعياً وصادقاً بدون أن نسقط أحكاماً سابقة على هذا التقييم حتى نتخلص من شبح نظرية التآمر العالمي، الذي أصبح يطاردنا في كل مكان. فكفانا تبريراً لأنفسنا بأن غيرنا أسوأ منا، ولنبدأ بتلوين حياتنا وآرائنا، وليتسع صدرنا لكل الألوان والآراء، ولنبدأ بالعمل لإصلاح أوضاعنا، كلٌ بما يستطيع عندئذٍ سنرى الأمور على حقيقتها، ولنتذكر دائماً أننا عندما قتلنا التنوع في حياتنا ومجتمعاتنا أصبحنا أكثر ما نتآمر على أنفسنا. ومازلت أحلم بذلك اليوم الذي أرى فيه ذلك التنوع، وتلك الألوان المختلفة في الفكر والسياسة والآراء الشخصية، وحتى في الملابس وأسلوب الحياه وأرى في ذلك اليوم المجتمع، الذي يحترم الآخر؛ لأنه يستحق الاحترام، ويسمح للجميع بالتعبير عن آرائهم وأفكارهم بالشكل الصحيح دون أن تكون هذه الآراء نهاية العالم. فالتنوع وإن كان له بعض الأضرار ظاهرة صحية طبيعية، بل ومفيدة لتطور ونهضة المجتمعات، وتقبل وتعايش أبنائه.