Marwan Al-Ghafory صغيرتي هيلين، أقف اللخظة في بلكونة في منطقة مغطاة بالغابات. اختارت أمك السكن الجديد في هذا المكان. قالت إنه سيناسب خيالك. على بعد أمتار يوجد متجر روسي، كنيسة، وفيللا صغيرة على شكل متحف. لا نعرف، صغيرتي، ما الذي سيجري في الغد. أمك دونت البارحة قائمة الأمور التي لن تسمح بتداولها أمامك: الجن، الحسد، الأرواح الشريرة، قوى ما فوق الطبيعة. كانت متحمسة وهي تكتب: في السنوات الست الأولى من عمرك ستتعلمين أن الكون يجري طبقاً لقوانين الديناميكا الحرارية، وقوانين نيوتن في الحركة. بعد ذلك سأعلمك، تقول أمك، مذهب سبينوزا: أجل، خلق الله العالم، ونحن من يسيره. إذا انشغلت بالمعرفة والثقافة فيما بعد، وحدث أن حضرت ندوة ثقافية، ستسخر الندوة منك إذا قلت لهم أنك لا تعرفين “ترويض الشرسة” لشكسبير، ولا الأخوات الثلاث لتشيخوف. سينتظرون منك أن تشعري بالخجل لذلك. أما إذا قلت لهم أنك لم تقرئي تشارلز ديكنز فقد يطلب منك مغادرة القاعة. لكن الندوة لن تشعر بالإحراج إذا سألتهم أنت: من فيكم يعرف قوانين الديناميكا الحرارية؟ سترد الندوة: لا نعرف، ولا نكترث. كان فيزيائي أميركي كبير يقول:هذه القوانين تعادل كلاسيكات شكسبير في كونها من أساسيات الثقافة والمعرفة. لماذا أحدثك عن الديناميكا، صغيرتي؟.. في المجتمعات، كل المجتمعات، يوجد مقدار ما من الادعاء. عندما تهبط المجتمعات في سلم التحضر يبدو الإدعاء أكثر فنتازية وإثارة. سأذكر لك مثالين. الأول من كتاب “أميركا التي رأيت” للكاتب سيد قطب. قطب كاتب مصري ذكي كتب رواية واحدة، وكتاباً واحداً في النقد الأدبي، وكتاباً ضخماً على شكل تداعيات مع النص القرآني أسماه “في ظلال القرآن”. في الظلال اكتشف سيد آيات الثورة وتوسع في تخيلها. قال إنها تعزز الحرية. كان يتحدث عن حرية الجماعة لا الإنسانية. ربما لم ينتبه إلى أن منقولاته عن المودودي لم تكن مثالية. عاش المودودي، حبيبتي، في الهند. كانت هناك جماعة مسلمة، وردت كثيراً في أدبيات المودودي، في بحيرة من الهندوس. لكن الجماعة في مصر، حركة قطب الإسلامية، لم تكن عائمة في بحيرة من الهندوس، بل في جماعة أكبر حجماً اسمها مصر. وهي بالمصادفة جماعة مسلمة. في “الاسلام بين الشرق والغرب” وضع بيغوفيتش، الرئيس الأوروبي المثقف والمسلم، الحرية في مصاف التوحيد. قال إنها حرية كل الإنسانية. لا تدرس كتب بيغوفيتش ضمن مناهج الحركات الاسلامية لأنها لا تستجيب لكل التطلعات السياسية والثقافية لتلك التيارات الاسلامية. بل تشرح الاسلام بطريقة تجعل منه صديقا لكل الدنيا. في كتابه حول أميركا تحدث قطب عن الشابات الأميركيات اللاتي يزرن معارض السيارات وأماكن التسوق لحفظ ببانات الموديلات الجديدة في السيارات والملابس والموبيليا. يحتجن دائماً لعناوين سطحية تكفي للاستعراض، للإدعاء، لخوض حديث سطحي مع الزميلات والصديقات. في بلدي يفعل جيل كامل مثل ذلك، لكنه بدلاً عن حفظ موديلات السيارات فإنه يجمع حفنة جمل وتصريحات في السياسة من مواقع صديقة. تنتهي الحكايا المعقدة والعظيمة عند تلك الحفنة القليلة من المعلومات ذات البعد الواحد. من الممكن أن يتحول هذا الجيل إلى طاقة مدمرة للحقيقة وللخيال. في لحظة ما أغمضت عيني، يا صغيرتي، فرأيت تلك الحماهير التي تحرق كتب ابن رشد لأن وشاية سياسية قالت إنه يعتقد بألوهية الوردة. كان ابن رشد قد ترجم مصطلح “ربة الحسن”في وصف الوردة عن اليونانية. وكان صديقاً لشقيق الحاكم، وهو أمر استفز الحاكم وزوجته ووريثه. المثال الآخر سرده مكسيم غوركي عن أنطونيو تشيخوف. كان غوركي أصغر سناً. في مرة قدمت مجموعة من النساء الثريات لزيارة تشيخوف، الطبيب والكاتب المعروف في كل روسيا. كانت الحرب اليونانية التركية مشتعلة. قالت امرأة:عزيزي تشيخوف، لمن تتوقع النصر؟ قال تشيخوف: لمن يتغذى أفضل. قفزت أخرى: ومن يتغذى أفضل؟ قال تشيخوف: من يأكل المرمالادا. تحبين المرمالادا؟قالت ثالثة: أعشقها. علقت أخرى: بالفراولة، واو، لا تقاوم. يدون مكسيم غوركي: نقل تشيخوف الحديث، في لحظة، من حرب الأتراك إلى المرمالاد. بعد ساعة انتهى حديث المرمالادا. لم تتذكر واحدة منهن ما الذي حدث للحرب. ودعنه بمرح. وعدنه أن يحضرن معهن المرمالادا في الزيارة القادمة، عندما يأتين لاستكمال نقاشهن معه حول حرب الترك واليونان. كان تشبخوف يدير الحوارات بهذا الشكل لمجرد أن يلمح الأدعياء الجاهلين يريدون الخوض في مواضيع معقدة. ستجدين ادعاءات في كل مكان. ضربت لك مثالين: من روسيا، ومن أميركا. بالقرب من شقتنا الجديدة، قلت لك، يوجد متجر روسي صغير. البارحة اشتريت “حلاوة” روسية. اسمها أيضاً “حلاوة”. كانت رديئة الطعم، لا تقارن بنظريتها التركية، رغم أن النساء الروسيات أكثر جمالاً من نساء تركيا. منذ زمن طويل جدا جداً لم تنجب روسيا كتاباً كباراً. في العام 1957 هرب كتاب “دكتور زيفاغو” لبوسترناك عبر الحدود إلى أيطاليا. في العام 1957 هرب كتاب “دكتور زيفاغو” لبوسترناك عبر الحدود إلى أيطاليا. في العالم التالي نال بوسترناك جائزة نوبل، وتحول الكتاب إلى واحد من أهم سبعة أفلام، وأكثرها عائداً ماديا، في تاريخ البشر. كان الغرب، الذي منح بوسترناك جائزة نوبل، يحاكم ستالين أكثر من كونه يكافئ بوسترناك. في الغرب المتحضر يوجد نفاق أكثر عنفاً وصلفاً من حروب “ويليام الفاتح” النورماندي، الذي هيمن على انجلترا سنة 1066م .. صدقيني يا هيلين، في أوقات كثيرة أجد سؤال تشيخوف: تحبين المرمالادا؟ هو الإجابة الأفضل لكل المرافعات والمحاججات الثقافية والمعرفية في عالمنا العربي. يقول الموروث الديني إن هناك ملائكة تحصي وتسجل أقوال الكائن وأفعاله. الآن تقوم تلك الملائكة الطيبة بعملية “كوبي آند بيست” من صفحة الشخص على الفيس بوك. لا أدري كيف ستكون صورة الفيس بوك لديك وأنت في الثامنة. في أيامنا كان كوكبا كبيراً أسمته مجلة ألمانية “بلانيت فيس بوك”.. م التالي نال بوسترناك جائزة نوبل، وتحول الكتاب إلى واحد من أهم سبعة أفلام، وأكثرها عائداً ماديا، في تاريخ البشر. كان الغرب، الذي منح بوسترناك جائزة نوبل، يحاكم ستالين أكثر من كونه يكافئ بوسترناك. في الغرب المتحضر يوجد نفاق أكثر عنفاً وصلفاً من حروب “ويليام الفاتح” النورماندي، الذي هيمن على انجلترا سنة 1066م .. صدقيني يا هيلين، في أوقات كثيرة أجد سؤال تشيخوف: تحبين المرمالادا؟ هو الإجابة الأفضل لكل المرافعات والمحاججات الثقافية والمعرفية في عالمنا العربي. يقول الموروث الديني إن هناك ملائكة تحصي وتسجل أقوال الكائن وأفعاله. الآن تقوم تلك الملائكة الطيبة بعملية “كوبي آند بيست” من صفحة الشخص على الفيس بوك. لا أدري كيف ستكون صورة الفيس بوك لديك وأنت في الثامنة. في أيامنا كان كوكبا كبيراً أسمته مجلة ألمانية “بلانيت فيس بوك”..منظر من سواحل مدينة عدن - اليمن بعدسة / Yusra Ahmad