يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة :278- 279] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [آل عمران : 130].هذه الآيات تنهى بوضوح لا لبس فيه عن الربا , ويبقى المطلوب منا تحرير مفهوم الربا وأسباب النهي عنه . قبل نزول هذه الآيات كان الربا منتشرا في الجاهلية بشكل كبير, فما هو شكل ذلك الربا الذي مارسوه حتى تنزل الآيات عليه بتلك القوة والصرامة ؟ يمكن تلخيص الصورة الربوية التي كانت في الجاهلية استنباطا من الآيات أولا واستنادا إلى كتب التراث التي شرحت تلك الصورة ثانيا بما يلي: كان الفقير في الجاهلية يأتي إلى الغني فيطلب منه قرضا يسد به حاجته الضرورية. وليس بقصد التجارة - إلى أجل معين ثم يقضيه, ثم تأتي فترة انتهاء الأجل, ولا يجد المقترض مبلغاً من المال, ليقضي دينه, فيقوم صاحب المال بمضاعفة المال مع تمديد الأجل, وهكذا تنتهي فترة الأجل الثانية فلا يستطيع الفقير تسديدها, فيضاعف عليه المال مرة أخرى, وهكذا تستمر الزيادة والمضاعفة, حتى لا يستطيع المقترض قضاء دينه, لأنه أصبح مبلغا كبيرا, فيضطر هذا المقترض إلى بيع كل ما يجده لقضاء دينه, ولا ندري ماذا يعمل إن لم يجد ما يبيعه لقضاء دينه, ويمكن هنا أن نسمح لخيالنا بالتوقع لما سيحصل في النهاية إن لم يجد المدين ما يقضي به دينه, أظن أنه سليجأ لبيع ابنه كي يكون عبدا عند صاحب الدين, هذا إن كان له أولاد, فإن لم يكن له أولاد فإنه سيكون عبدا عند صاحب الدين, وهذه ليست صورة غريبة فقد كانت ممارسة عند اليونان وها هو القانون الروماني في قمة تطبيقه كان يجيز للدائن أن يسترق مدينه, وإذا تعدد الدائنون جاز للدائن اقتسام جثة المدين. هذه الصورة المليئة بالظلم والاستغلال لحاجة الفقير هي التي تفسر لنا تلك الهجمة التي هاجم بها القرآن المرابين, وتوعدهم بالحرب, فالقاعدة المعروفة في الفقه الإسلامي والمستنبطة من استقراء النصوص تقول بأن العقوبة تأتي على قدر الجريمة, فهذه هي الجريمة التي جاء القرآن ليحرمها, وليؤسس بدلا عنها مبدأ أخلاقيا وهو النظرة للمعسر إلى ميسرة (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ). هذه هي صورة ربا الجاهلية الذي شدد عليها القرآن, وهو نفسه الربا الذي روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عنه في حجة الوداع بقوله: (إلا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب), وهو المسمى بكتب الفقه “ربا النسيئة” والمنسوب لبعض الصحابة والتابعين –وعلى رأسهم ابن عباس- أن لا ربا غيره, حيث استندوا إلى أن القرآن لم يذكر ربا الفضل, واستندوا لرواية عن أسامة عن النبي عليه السلام (لا ربا إلا في النسيئة). وصورة الربا تلك كانت تتخذ شكل التضعيف في المال على المدين, وهو واضح من قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة)، و(المضاعفة) هنا تفيد إعطاء مثل الشيء مرات (والضعف) إعطاء المثل مرة لذلك ورد قوله تعالى في القرآن الكريم (إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكُ حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً) سورة النساء 39. البنوك: البنوك مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة عند فقهائنا الأوائل, وحين نقوم بتنزيل صورة الربا الذي كان في الجاهلية والذي نهى عنه القرآن على البنوك الموجودة اليوم نجد أن هناك فروقا واختلافات تجعلنا نخالف ذلك الحكم الذي اشتهر عنها في الفترة الأخيرة بأنها ربوية. أقول في الفترة الأخيرة لأن البنوك حين دخلت عالمنا العربي في أوائل القرن الماضي لم تلق ذلك الهجوم عليها بتحريمها كما اليوم, ثم تطور الصراع حولها في منتصف الخمسينات مع تغلغل المد الاشتراكي في الوطن العربي -وفي مصر تحديدا- حتى بدأت تبرز بقوة قضية البنوك والصوت القائل بربويتها , ثم رجحت الكفة لصالح المحرمين لتلك البنوك بعد إنشاء أول بنك “إسلامي” في دبي في منتصف السبعينات, ومنذ ذلك التاريخ صارت الآراء التي تقول بعدم ربويتها تدخل خانة الشذوذ الفقهي. الاختلاف بين صورة الربا والبنوك 1. في المعاملات البنكية يكون الدائن والمدين كلاهما من أصحاب رؤوس المال على درجات مختلفة , فقد يكون أحدهما أكثر امتلاكا من الآخر ولكنهم في الأخير يعتبرون من التجار صغارا كانوا أو كبارا , وعليه فلا تحل الصدقة لأحدهما فيما لو طلبنا من الدائن أن يتصدق على المدين , لأن المدين يأخذ المال للمتاجرة به , بينما المدين في صورة الربا فقير ومحتاج للصدقة ولذا نزلت الآيات لتحث الدائن على الصدقة لمدينه (وأن تصدقوا خير لكم). 2. إن الدائن والمدين في المعاملات البنكية كلاهما يحصل على منفعة, وليست المنفعة محصورة على الدائن فقط , كما هو الحال في صورة الربا الذي نهى عنه القرآن , والدائن هنا لا يستغل المدين المحتاج للصدقة بل يشترك معه في المنفعة بموجب عقد تجاري قائم على الرضا بينهما يقوم فيه المدين باستثمار المال بما يحقق مصلحة الطرفين . بينما لا نجد أية منفعة للمدين في صورة الربا المنهي عنه. 3. المعاملات البنكية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده في أموال المدينين كما هو الحال في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم وإنما هي تجارة من نوع جديد دعت الحاجة إليها , وصارت مصالح الناس في معاشهم لا تتم إلا بها , وأصبحت العمود الفقري لاقتصاد أي بلد كما أنها ترتبط ببنوك أكبر منها لتحقيق مصلحة البلد بأكمله في تعاملاته الاقتصادية مع الدول الأخرى , وبتحريمها نفقد منافع ومصالح كثيرة على مستوى الأفراد ومستوى الدول. 4. إن الدائن والمدين في المعاملات البنكية تكون بينهم جهة تدير أموالهم بما يدعو للأمان والطمأنينة من أن يستغل أحدهما الآخر أو يستغله أو يظلمه بفائدة كبيرة , ولذا فإن البنوك تتفق على فائدة معينة تكون مناسبة ومعقولة لكلا الطرفين ولا يكون فيها استغلالا أو ظلما , ولو كان فيها ظلم أو استغلال لأحد الطرفين لعدلوا منها. بينما يكون الدائن في صورة الربا المنهي عنه في كامل حريته في استغلال مدينه ووضع الزيادة عليه دون أن يمنعه شيء , حتى لو ضاعف المال عدة أضعاف. 5. الزيادة المعقولة في البنوك المصرفية إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة , وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة وهذه الزيادة تختلف تماماً عن الزيادة التي أشار إليها القرآن الكريم والتي اعتبرها محرمة لأنها لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة وبعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء. 6. أن البنوك تقوم أساسا على التجارة فهي لم تقم لمساعدة الفقراء بإقراضهم قرضا استهلاكيا لحاجتهم , وإنما قامت على أساس أنها تمنح الأفراد قرضا إنتاجيا, وقرض الإنتاج ما هو إلا أخذ مبلغ من المال من البنك للاستثمار والنماء عن طريق النشاط التجاري أو الصناعي أو كليهما معاً، حتى لو أخذ المدين المال لقضاء حاجته فإن أساس معاملة البنوك لا يعرف ذلك ولا يتابعه لأنه يفترض من البداية أنه يمنح قرضا إنتاجيا, وهو هنا يشبه المضاربة, حيث يكون المال من شخص والعمل لاستثمار هذا المال من شخص آخر بجزء مسمى على جهة الشيوع من الربح. وبناء عليه فالفائدة التي تؤخذ على القرض الإنتاجي يمكن احتسابها جزءاً من ربح المضاربة المشروعة. نقاط مهمة: بعد هذه المقارنة الواضحة بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم وبين المعاملات المصرفية يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماماً عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة, وهي تشبه ما عملوه في بيع (السلم) رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع. حيث يبرر العلماء إباحته بأنها كانت لحاجة الناس إليه. إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها, ولذلك فإنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له, بل أن حظرها يهدد كيان الدولة ويقضي نهائياً على مصالحها الاقتصادية. إن توفير السيولة في المصارف مصلحة اقتصادية ضرورية لإشباع الحاجات المشروعة ولذلك يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى من الأرباح لأن ذلك سوف يشجع على ظهور السيولة في المصارف وعلى إشراك أصحاب الأموال الصغيرة في أرباح المشاريع التجارية الكبيرة والصغيرة ذات المصلحة المحققة وفي ذلك بلا شك مصالح معاشية ضرورية من غير استغلال ولا ظلم مما هو من خصائص الربا المحرم في القرآن الكريم. نحن نعرف أن المصارف تقرض بأجل أي توظف الزمن ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دوراً بارزاً لا مجال لإنكاره، ومن ثم فمن حق المتعامل أن يستفيد به, ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أعلى نظير الأجل.