للعيد مذاق خاص، ونكهة عابقة، تفوح عطراً فتنتشي النفوس التواقة للحب حباً وصفاءً مُصفى، أيامه حافلة بالفرح، ولياليه زاهية بالوصل، جميعها لحظات صفاء وتسامح، اختصها الله وعاشها الجميع «الصغير والكبير والغني والفقير».. فرصة نسائية - تبدأ مراسيم الاستعداد لليوم الأول من العيد، حيث تشرع النساء في إصلاح الأطعمة والأشربة الخاصة، فتنبعث روائحها من بين ثنايا الأزقة والبيوت العتيقة.. النساء جزء مهم في العيد لأنهن يمتعن الآخرين بما تجود به أيادهن- بعد عناء طويل في المطابخ - بالكثير من المأكولات التي تصنع خصيصاً في المناسبات أمثال أنواع الكعك المختلفة وبنت الصحن والرواني والعديد من أنواع الحلويات الزاخرة بكم وافر من المكسرات التي تزدهر تجارتها في أيام العيد أمثال الفستق واللوز والزبيب والجوز.. كما ينصرفن إلى تزيين مساكنهن وتنظيفهن بعناية فائقة غير معتادة، وإظهارهن بحلة جديدة تختلف هيئتهن من مسكن إلى آخر، وفي أيام العيد تتحقق فرصتهن بالخروج والتنزه مع بعولتهن وأطفالهن وهي فرصة لا تتحقق لمعظمهن إلا مرات محدودة في العام. ألوان الفرح يكمن الفرح الأكبر بالعيد عند هؤلاء الأطفال الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، فكل ما في العيد هو فرحة لهم.. ومنهم الطفلة «ليلى عبدالحميد».. قالت بهمسات طفولية خافته :"أحب العيد في العيد نلعب ونفرح.. أولاً أعيد على أبي وأمي.. ثم أذهب مع اخوتي لزيارة أعمامي وأخوالي وهم يضيفونا «بجعالة العيد» ..وأكثر ما تحب ليلى «الشوكولاتة والزبيب». «تشتي الصدق» قالها والد ليلى «العيد عند هؤلاء الأطفال البعيدين عن هموم الحياة ومشاكلها ،يعيشون حياتهم ويلونون عيدهم بألوان الفرح التي هي أصلاً ألوانا ربانية تنسكب في وقت واحد، وآلاف الأفراح الخاصة ليست شيئاً أمام فرحة العيد التي لا تضاهيها مليون فرحة.. قِراح كما يمثل العيد للأطفال الحصول على العيدية «العوادة» من كل من دخل منازلهم من الزائرين، أو من ذهبوا لزيارتهم.. الأمر الذي يتيح لهم شراء أكبر كمية من الألعاب النارية.. يقول والد ليلى: الأطفال هم حياة المدينة ينتشرون في شوارعها وأزقتها .."وفي الألعاب والطماش" يستنفدون رصيد العوادة، الجاري و«الدكان المفتوح» هو المستفيد، وبعدها يملؤون المدينة ضجيجاً ب «القراح». إلى الحديقة.. حديقة الألعاب هي الأخرى تستنزف النصيب الأوفر من ذلك الرصيد «العوادة».. حيث يجبر الأطفال أسرهم على ارتياد الحديقة «ليمرحوا ويلعبوا».. وهناك رأيت عديداً من الأطفال وهم "يطوبرون" مع آبائهم وأسرهم عند بوابة الحديقة وأمام الألعاب دون ملل أو تعب.. يمتطون العاب التسالي الواحدة بعد الأخرى، فيرسمون الابتسامات والبهجة والفرح خلال أيام العيد. يقول المهندس عبد الحكيم العزاني: أجمل اللحظات في حياة الإنسان هي رؤية أولاده مسرورين كهذه اللحظات التي نعيشها الآن.. وقد تعودنا مع كل عيد أن نخرج في رحلات عائلية إلى الحديقة لإدخال الفرح إلى قلوب اطفالنا وكذلك قضاء أوقات جميلة. الطفلة سوسن ابراهيم - الصف الرابع قالت: أنا آتي مع أهلي بشكل دائم في العيد إلى الحديقة حيث نقضي وقتاً ممتعاً بركوب السيارات والحصان والمراجيح. زحام لا يطاق مجرد أن خرجت من المنزل وخطف بصري الشارع ظننت أن سكان المدينة إما في نوم عميق أو أنهم نزحوا أو سافروا إلى خارجها. بهذه المقدمة ابتدأ عبدالله سيف غالب حديثه مضيفاً: إنه وبمجرد ذهابه إلى الحديقة تأكد له أن الجميع عزموا ورابطوا في هذه الحديقة الوحيدة. وزاد على ذلك: لم نكن نتوقع أن يخرج الناس بهذه الكثافة وكأنه لم يسافر منهم أحد إلى القرى أو المدن الأخرى، فالكثافة والزحام كبيرة وكانت لا تطاق وبالذات عند أماكن صعود الأطفال إلى الالعاب.. كل أب يزاحم هو وأطفاله ويلعب معهم. وختم عبدالله حديثه: من الضروري أن يخرج الأطفال في رحلات ترفيهية ،لأن ذلك يفيدهم صحياً وجسدياً، فالأطفال يحتاجون إلى الهواء النقي وكذلك الحركة واللعب كنوع من الرياضة الضرورية لهم كي تنمو أجسامهم بشكل طبيعي وسليم. حديقة واحدة لا تكفي سعيد الصلوي أكد أن الحدائق والمتنزهات في بلادنا قليلة ولا تلبي احتياجات الناس في قضاء أوقات ترفيهية.. وخدماتها لا ترتقي إلى المستوى ولا تلبي رغبات وطلبات الزائرين، فالألعاب قليلة والوقت المستغرق في كل لعبة محدود ، والسعر كبير والكثافة أكبر من المكان. وأضاف الصلوي: المطلوب من السلطات المحلية في المحافظات وكذلك القطاع الخاص أن يبادروا بدراسة الوضع الحالي، خاصة مع زيادة السكان بحيث يتم استحداث حدائق جديدة لمتوسطي الدخل والفقراء، وكذلك الترويج للمستثمرين للاستثمار في هذا المجال، وكذا تحديد المواقع الخاصة لمثل تلك الحدائق. الصلوي وحيث قابلته رأى في العيد فرصة للترويح عن النفس فهو ونتيجة لقرب منزله من الحديقة يخرج إليها طول أيام العيد، يحجز مكاناً فوق الحشائش الخضراء وتحت ظل إحدى الأشجار الوارفة «يمضغ القات» بينما أطفاله يلعبون ويمرحون أمام ناظريه. سلم على أحبابك خالد الفقيه شاب عشريني قضى العيد في غرفة العزوبية في المدينة.. رحل زملاؤه وتركوه وحيداً حبيس أربعة جدران واجمة ، وراديو قديم يرفع من وتيرة الأشواق لديه بترنيمة الآنسي العيدية «آنستنا يا عيد.. سلم على أحبابك أهلك وأصحابك». بعد انتهائه من صلاة العيد لم يجد خالد من يسلم عليه، ويتبادل معه التهاني والأمنيات العريضة.. بصعوبة كسر حاجز الوحدة وباشر السلام على أناس لا يعرفهم ليسمع منهم «عريس حاج ناجح..». الشارع أمامه مقفر خالٍ.. يتلفت يميناً وشمالاً فلا يجد أحد، لم يشم للعيد رائحة.. يتجرع غصته يتذكر أجواء العيد في القرية، وطعم الأكل من يد أمه الحانية.. يستمر في البحث عن صبوح «المطعم» مغلق «البوفيه»- كذلك – لا شيء غير السكون .. أنهى خالد حديثه الصعب بقرار عدم تكرار العيد في المدينة وحيداً بعيداً عن الأهل والأحباب " دائماً أبداً..". للعلم فإن «خالد» بعد يومين من المعاناة قرر العودة إلى أحضان أمه وقريته الحانيتين.. البحث عن دكاكين مثل «خالد» قضى الشاب بشار القاضي العيد في المدينة، ولكن بين أسرته، وقد جاء وصفه بأن العيد في المدينة "تمام " إلا أن الخدمات تقل حيث تغلق معظم المحلات التجارية.. وأضاف القاضي : نبقى طيلة العيد نبحث عما هو مفتوح من بقالات و«دكاكين»..!! موسم العودة باتت الأعياد السانحة الوحيدة لاستعادة شيء من دفء العلاقات الأسرية ،التي خف وهجها في لجة شواغل الحياة الحافلة بالتعقيدات والتغيرات المتسارعة.. يقول فارس محمد: العيد عندي فرصة للهروب من حياة المدينة القاسية من خلال العودة الموقتة إلى القرية، لأنعم بشيء من الراحة وأستقبل العيد وسط لفيف من الأهل والأصدقاء. فارس- وهو الموظف بإحدى شركات القطاع الخاص - سمى العيد بموسم العودة إلى الريف «وعرفها» بأنها هجرة عكسية مؤقتة يحكمها العيد فقط ، فهؤلاء العائدون إلى قراهم ليسوا من سكان المدينة أصلاً، لكنهم جزء من ظاهرة الهجرة الداخلية التي تنامت خلال السنوات الماضية. ترويح عن النفس نتيجة لتلك العودة تشهد مواقف السيارات والفرزات ازدحاماً شديداً خلال اللحظات الأخيرة التي تسبق العيد.. أفواج العائدين يستقبلهم الريف ويضمهم بين أحضانه من بعد طول غياب.. محمد عبدالقادر التقيناه وتباشير الفرح تكاد تشع من وجهه، وبدوره كشف عن عظيم تلك الفرحة.. فالعيد حد وصفه فرصة للترويح عن النفس بعيداً عن أجواء المدينة والعمل الخانقة. مواساة أما الذين لم يستطيعوا الخروج للتنزه، أو السفر إلى الريف، أو شراء حاجيات العيد من ملابس ومكسرات، تلوك ألسنتهم عبارة إن صح التعبير «مواساة» "العيد عيد العافية" فهم بذلك يقنعون أنفسهم بحالة صحتهم الجيدة التي هي أكبر مغنم، وكأن العافية قوتهم الوحيد.