الموروث حياة أقوام.. فهو مكون أصيل للذاكرة الحضارية، كونه تراكماً كمياً لمخزون السنين من الثقافة والهوية، أنتج تغيرات نوعية من التفاعلات المجتمعية تجسدت في عدة أنماط منها ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي وبيئي انصهرت في مجملها سلوكيات ومهارات ومعايير وعادات وأعراف وأخلاقيات مجتمعية، انعكست في أشكال شفاهية وقوالب مادية ورموز تعبيرية تداولتها المجتمعات المختلفة باختلاف نمط الحياة وإبداعات بني البشر. وكما هو معلوم أنّ موروثنا اليمني هو الأغنى من حيث الكم والكيف معاً. غير أن الأمر المؤسف والذي لابدّ من ذكره هو أن موروثنا اليوم يتوارى بفعل العولمة التي تتعامل مع التراث كسلعة ومع الإنسان كمستهلك وبرغم الجهود المبذولة في جمعه والحفاظ عليه إلا أن غالبيتها جهود فردية ولكي لا يتحول مع الزمن إلى مجرد ذكرى يحتم الأمر ضرورة تكثيف حضور المؤسسات الرسمية منها والشعبية تُعنى بحفظ وتوثيق موروثنا الشعبي وتروج له الترويج الأمثل فكلما زادت قيمة منجم التراث وحُسن التعامل مع كنوزه نستطيع أن نصنع مكانة محترمة لهويتنا المجتمعية في الحضارة الإنسانية فما هويتنا سوى نواتج تفاعلنا مع التراث و إكسيره. تنوع فريد عبر الأزمنة المتعاقبة أبدع الإنسان اليمني في نمط حياته فخلف عصارة فكر وتجربة وتاريخ غني ومتعدد في أشكاله وأنواعه باختلاف السهل والوادي والساحل والجبل، فتنوعت فيها الأمثال والأهازيج والحكايات والفنون الشعبية، الرقص والغناء واللباس والطعام والصناعات اليدوية والحرفية وغيرها كثير، وكلها موروثات تداولها وتوارثها المجتمع من الأب إلى الابن، ومن الجار إلى جاره، دعمت نسيج العلائق الاجتماعية، ومنعت تحلله فالتراث لا يعني الماضي فقط، بل هو الموروث الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، من خلال الأجيال، ومهما كثرت عوامل تفسيخه إلا أن جمال وروعة صوره المتعددة التي تتجلى صورها في القرى والأرياف والمدن اليمنية لا يزال حيّاَ حتى اليوم. واقعه اليوم اختلفت معالم الصورة اليوم اختلافاً يكاد يكون كلياً فعلى صعيد الصناعات التقليدية أدى تغير الهيكل الاقتصادي والاجتماعي ونمط الاستهلاك، وتغير العمل بتغير الأدوات، التي حلت محلها الأدوات والمعدات الحديثة، تركت آثاراً كبيرة على الصناعات الحرفية والتقليدية، التي وجدت اليوم نفسها مع الزمن في سباق غير عادل جعلها تفقد بريقها تدريجياً أمام تحول الورش والحرف إلى صناعة متكاملة أغرقت السوق بمنتجات لا يمكن للحرفة أن تنافسها جمالاً وجودة وسعراً. كما واجهت الحرف تحديات أصعب تمثلت في فتح الأسواق لمنتجات صناعية مستوردة، قضت على آمال الكثير من الحرفيين، ونقلت الجزء الأكبر منهم إلى أعمال ومهن أخرى، وبهذا خسرت الحرف والصناعات اليدوية عدداً مهماً من روادها. وأمام هذا كله تؤكد دراسة ميدانية أجرتها الهيئة العامة للآثار بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي للتنمية في إطار برنامج الحفاظ على التراث الثقافي اليمني اندثار نحو 35 % من الحرف اليدوية والصناعات التقليدية التي عرفتها مدينة صنعاء حتى منتصف أربعينيات القرن الماضي. وأشارت الدراسة إلى أنه لم يبقَ حتى الآن سوى 28 % من سكان مدينة صنعاء القديمة يزاولون حرفهم رغم ضغط المنتجات المستوردة المنافسة التي باتت تهدد مصدر دخل معظم الحرفيين. الزي الشعبي والفنون الشعبية أضف إلى ما مثلته العولمة من زيادة حجم التبادلات الواسعة التي فرضها الاعتماد المتبادل، وزيادة التفاعل الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي أدى بدوره إلى إزالة الحواجز الاقتصادية والثقافية وقيم وسلوكيات المجتمعات ونمط الذوق والعادات الاستهلاكية المختلفة، التي دجنها المناخ الثقافي السائد والآلة الإعلامية كقوة ضاربة، تحكمت في اتجاهات إنسان اليوم وسيلة ورسالة وتأثيراً. فتأثر المتلقي بنمط الاستهلاك الغربي، الذي تغلغل بعمق في الريف والحضر ترك آثاراً سلبية على المكون العام للنسيج الاجتماعي، وعلى حساب موروثنا الشعبي بشقيه الشفاهي والمادي . مؤسسات لا تفي بالغرض لم ينل هذا الجانب الاهتمام الكافي للنهوض به نتيجة لعدد من الظروف الموضوعية، أهمها ضآلة الموارد المالية وأولويات أخرى، طغت على كثير من الجوانب، فظلت احتياجات النهوض بالموروث الشعبي قائمة إلا أنه في المقابل أنشئت عدد من المراكز، ومنها مركز الأسر المنتجة الذي يتبع وزارة الشئون الاجتماعية والعمل وفروعها في المحافظات، ويعتبر أحد المراكز الداعمة للمبادرات الفردية وبيئة حاضنة للصناعات الحرفية التي تختص بها المرأة إلى جانب المركز الوطني للحرف اليدوية، الذي يجمع عدداً من الحرفيين المنتجين للصناعات التقليدية، والدار الصنعاني الذي يتبع الهيئة العامة للمدن التاريخية ووكالة تنمية المنشآت الصغيرة والأصغر وهي إحدى مؤسسات تطوير المشاريع الصغيرة التابعة للصندوق الاجتماعي للتنمية ومن ضمن مشاريعها مشروع تصدير الحرف اليدوية. غير أن هذه في أغلبها تفتقر لاستراتيجية واضحة داعمة على مستوى الحكومة منها عدم تخصيص صندوق مالي يجند المصادر اللائقة وينفق بتوازن صحيح على كل المشاريع والبرامج والنشاطات من أجل تحقيق الهدف. يرافقه عدم وجود قاعدة معلومات كاملة وخبرات فنية وإدارية. بيت الموروث الشعبي بيت الموروث الشعبي أنشأته الأستاذة اروى عثمان فالبيت كيان ثقافي غير حكومي يعنى بالموروث الشعبي اليمني الروحي والمادي ولا يهدف إلى الربح تأسس في 11 إبريل 2004م. أهداف وغايات بيت الموروث الشعبي تتركز حول توثيق التراث الشعبي اليمني بشقيه المادي والشفوي جمعاً وتدويناً، دراسة وتحليلاًً. بالإضافة إلى الحفاظ علي الهوية المفتوحة على التفاعل والتثاقف مع الآخر وخلق قاعدة شعبية ورأياً عاماً بأهمية الموروث الشعبي وحمايته وطرق المحافظة عليه. غير أن نقص التمويل و قلة إمكانياته المادية أبرز صعوباته الذي يتطلب الدعم المادي اللازم من قبل الجهات المعنية بما يمكنه من أداء مهامه على أكمل وجه. بيت ذمار للموروث الشعبي السياحي أعلن ميلاده في 1 /1 /2010م بموجب تصريح من وزارة الثقافة برقم ( 15 ) و يعتبر أول بيت بمحافظة ذمار ولمعرفة تفاصيل أكثر التقت «الجمهورية» الأخ حسان العنسي - المدير التنفيذي للبيت بادئاً بالقول: لا يختلف اثنان على أهمية الحفاظ على الموروث الشعبي السياحي بكل أنواعه وحمايته مما يتعرض له من ضياع إما بالسرقة والنهب أو بسبب الغزو الثقافي والتطور التكنولوجي الذي يعمل بطريقة مباشرة أوغير مباشرة على طمس الهوية العربية وتذويب معالم الشخصية الإسلامية العربية فالاهتمام به أصبح ضرورة ملحة وحتى يصبح التراث حياً يحتاج إلى جهود للكشف عنه وإحيائه وإزالة المعوقات التي تقف وراء اندثاره . غايات وأهداف يقول: العنسي إن الهدف الأساسي من هذا البيت هو لفت الانتباه والتركيز على أهمية الموروث الشعبي السياحي ومطالبة الجهات الرسمية المختصة بإجراءات وحلول سريعة تتبنى عملية الحفاظ عليه والمطالبة بدعم كل المحاولات الشخصية التي يقوم بها أفراد مهتمون بالتراث، ويضيف: أهداف وغايات البيت متعددة منها إيجاد متحف يضم العادات والتقاليد اليمنية عامة والذمارية خاصة وإقامة الندوات والدورات التدريبية وورش العمل إلى جانب العمل على تعريف المجتمع المحلي بالموروث الشعبي السياحي والاهتمام به ورعايته وصقله والتعهد بحفظه من الضياع وحمايته من الإهمال بواسطة تمثيل الأدوار والاعتماد على المحسوس حتى تكون الصورة أوضح وأعمق، وإعطاء صورة حية عن الماضي بكل معانيه الثقافية والفنية. ناهيك عن تنمية الفكر العلمي فيما يتعلق بدراسة اللهجات اليمنية والتراث الشعبي السياحي والعمل على تطوير هذا الحقل وتنشيطه. و رصد التراث بكل مكوناته في اليمن من مصادره الأساسيّة بما يتضمنه من عادات، وتقاليد، ولهجات مختلفة، وموروث سلوكي، ومعارف، ومعتقدات شعبية، وحِرف، وفنون، وأزياء، وحكايات، وأمثال، ونكت، وألغاز، وغير ذلك من أوجه التراث الذي له صلة بحياة الناس. صعوبات وفي معرض حديثه قال العنسي يمكننا القول: إن الاهتمام بالموروث الشعبي السياحي لمحافظة ذمار غائب عن أجندة الدولة من حيث التدوين والدراسة والبحث والتوثيق فلا يوجد في ذمار أي متحف يوثق ويحفظ موروثنا الشعبي السياحي كما لا يوجد مقر للبيت أو دعم مالي للاستئجار لتعزيز المفهوم العام للموروث الشعبي و استيعاب حاجات ومتطلبات بيت ذمار للموروث الشعبي السياحي من الجهات المعنية خصوصاً وزارة الثقافة ووزارة السياحة كونهما المعنيان بذلك. إلى جانب ضعف الكوادر البشرية العاملة في هذا المجال أدى إلى ضعف البرامج الموجهة من الناحية التراثية. ويضيف هناك حزمة من المعوقات الأخرى تضعف مساهمة بيت ذمار للموروث الشعبي السياحي من أداء مسئوليته منها ضعف الوعي المجتمعي والعولمة وما تصدره من غزو ثقافي مدعوم بتطور تكنولوجي ساهم بشكل كبير في اختفاء العديد من موروثنا الشعبي بشكل عام والسياحي بشكل خاص. دعم مادي ولوجستي ويرى الأخ حسان العنسي أن الواجب الإنساني والوطني يتطلب منا إسهاماً غزيراً ومسؤولاً في هذا المجال من قبل المجتمع بكافة تكويناته لسد ثغرة ظهرت نتائجها في الجيل الجديد وتكوينه الثقافي لنتمكن من تكوين جيل من المهتمين بالتراث والسياحة يواصلون جهودهم بجهود من سبقوهم في هذا المجال الحيوي. وفي إطار مجمل هذا القول نطالب قيادة السلطة المحلية بالمحافظة ووزارة الثقافة ووزارة السياحة والهيئة العامة للآثار بالاهتمام ببيت ذمار للموروث الشعبي السياحي وإيجاد قنوات ووسائل مادية ومالية ومعنوية تمكن البيت من حفظ وتوثيق موروثنا الشعبي السياحي كون بيت ذمار للموروث الشعبي السياحي هو أول بيت في محافظة ذمار يهتم بتوثيق وحفظ الموروث الشعبي. مبادرة الأخت أسماء المصري المنسق العام لمركز الحوار لتنمية ثقافة حقوق الإنسان بذمار قالت:منذ سنوات قليلة ظهرت مبادرة مدنية من قبل عدد من الشباب بالمحافظة لتقديم العون وتكريس جهودهم لهذه القضية، هذه المبادرة التي تمثلت بإنشاء ( بيت ذمار للموروث الشعبي السياحي) كجهة تعمل من أجل الحفاظ والتعريف بالموروث الشعبي بمحافظة ذمار والذين سارعوا بعمل خطوات جادة وملموسة في إقامة المعارض الشعبية وجمع القطع الأثرية والصور النادرة وتوثيقها وعرضها بأبسط الإمكانيات المتاحة لديهم وبتعاون من محافظ المحافظة ومكتبة البردوني العامة وعدد قليل من الجهات، إلا أنه عند انتهاء البيت من إقامة المعارض الشعبية التعريفية يقومون بجمع القطع لأثرية والأواني الفخارية والحلي والصور وغيرها من المقتنيات القديمة في «كراتين» وصناديق وتخزينها في أماكن خاصة وضيقة لعدم توفر مقر للبيت يحفظ هذه المقتنيات من أضرار التنقل المستمر و يحميها من السطو والضياع، وتضيف: في حال وجود مبنى للبيت سيكون متحفاً ومزاراً لجميع أبنائها وضيوفها من خارج المحافظة إلى جانب استثماره لتوعية طلاب المدارس بمخزون موروثنا الشعبي وأهمية الحفاظ عليه ورعايته. ندوة وفي سبيل الاهتمام بهذا الجانب تقول المصري: أقام مركز الحوار لتنمية ثقافة حقوق الإنسان بذمار في 15 مارس 2014 م ندوة نقاشية بعنوان «ذمار والموروث الشعبي الواقع والتحدّيات» بحضور السلطة المحلية وعدد من الاكاديميين والمهتمين والجهات المعنية. وقد خرجت الندوة بعدد من التوصيات المهمّة أهمها إعداد دراسة شاملة ومتكاملة حول ما تعانيه المحافظة من ضعف وقصور في جانب الإرث التاريخي والسياحي والطبيعي والموروث التقليدي والشعبي من قبل أكاديميين ومتخصصين وبالتعاون مع جامعة ذمار . مسنوداً بتكاتف الدور التكاملي لقيادة السلطة المحلية ومكتب الثقافة ومكتب السياحة وفرع الهيئة العامة للآثار والجهات الخاصة ذات العلاقة في الدعم والرعاية وتشجيع المبادرات الشعبية والشبابية التي تصب جميعها في خدمة التراث التاريخي والموروث الشعبي بالمحافظة ك «بيت ذمار للموروث الشعبي والسياحي» . وتضيف ومن ضمن التوصيات حفظ التراث المدوّن والموثّق من قبل المؤرّخين والعلماء بالمحافظة من خلال التخاطب مع وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب لطباعة كتبهم ومؤلفاتهم التي تتحدّث عن تاريخ وموروث ذمار الشعبي والتقليدي والسياحي والفني والفلكلوري، وذلك قبل اندثار هذا الإرث الفكري والتاريخي للمحافظة بضياعه أو إهماله أو برحيل روّاده ومؤرخيه وموثّقيه. بالإضافة إلى تخصيص مهام وكيل للمحافظة لشؤون التراث والترويج السياحي. ضرورة تاريخية ومن خلال ما طُرح آنفاً ينطق الواقع بالقول إذا كنا لا نستطيع أن نضيف شيئاً بفعل المحاكاة والتقليد فعلينا حماية موروثنا الشعبي من التداعي والسقوط من خلال تدوينه وتصنيفه و تدريسه وتعليمه. فدخول العولمة للمجتمعات سيفقدها حتماً جزءاً كبيراً من ذاكرتها. لذلك كله اصبح الاهتمام بالموروث الشعبي و المواءمة بين قيم الأصالة والحداثة والمعاصرة ضرورة تاريخية حيوية. [email protected]