هل سوبرمان أقوى من صدام حسين؟!. يا له من سؤال يمكن أن يتم فيه استبدال صدام حسين بأي ديكتاتور آخر، أو زعيم جماعة مسلحة أو قائد تنظيم إرهابي عالمي كتنظيم القاعدة مثلاً، بل ويمكن أن يتم استبدال صدام حسين بأي رئيس للولايات المتحدية الأميركية. هذا السؤال البريء ورد على لسان أحد بطلي فيلم “بيكاس” العراقي، الكردي تحديداً، وهو سويدي الإنتاج، وهو الفيلم الذي دار على مهرجانات سينمائية عديدة، وحصد الكثير من الجوائز، وحقق شهرة لا تضاهى على مستوى المنطقة، وكان جواز عبوره كل هذه المسافات بسيطاً ومألوفاً، الكوميديا، لكنها ليست أية كوميديا. ما يجعل من “بيكاس” للمخرج العراقي الكردي كارازان قادر مميزاً، ليس قصته وفكرته الفريدتين فقط، بل من تلقائية وانسيابية القصة وتسارعها في سياق كوميدي مبتكر وأنيق، يعتمد على حيوية وشقاوة طفلين يجربان التمثيل لأول مرة، وتأتي القصة لتليق بهما كثيراً، صحيح أن القصة ليست معقولة، ولا يمكنها أن تحدث بتلك البساطة والمباشرة، لكنها، وهنا الذكاء السينمائي، تهيئ لنفسها كل ما يجعل إمكانية حدوثها معقولة، فأجواء الفيلم من ثمانينات القرن الماضي، ومكانه هو كردستان العراق الذي قاسى ويلات نظام صدام حسين وبطشه وجنونه، وبطلا القصة ليس سوى طفلين بلا عائل، ويعيشان على الكفاف في رعاية جد عجوز ويقترب من الموت، و”بيكاس” كلمة كردية تعني الذي لا أهل له، وعندما تأتي هذه الكلمة من كردستان العراق؛ فإنها تحفر في الوجدان والذاكرة تاريخاً من الحرمان والموت والمآسي التي صنعها تاريخ هذا الجزء من العالم. يسترق الشقيقان النظر من فتحة في سقف دار العرض السينمائي، فيشاهدان سوبرمان، ويقررا السفر إليه لكسب صداقته والاستعانة به، وهما إذ استرقا النظر من كوة في السقف فلأنهما يتيمان ولا يملكان ثمن تذاكر دخول السينما، إن هذا العوز والبؤس في نفسية الطفلين يجد أرضاً خصبة لتشكل حلم، واتخاذ قرار تحقيقه بسرعة، هكذا إذن يجد العاجزون في القوى الخارقة المستحيلة فرصاً لتحقيق أحلامهم، وتعويضاً عن الضعف والهوان أمام الأقوياء، وهي رمزية قديمة حاول كارازان تقديمها في سياق جديد، حيث المجتمعات الشرقية تعيش طفولتها، وتتشبث بالغيب والمستحيل لإنقاذها، ولا ينسى الطفلان أن يدونا في دفتر أسماء كل من آذوهما لإقناع سوبرمان بالانتقام منهم، كما لا ينسيا أن يدونا اسم صدام حسين المسؤول عن مصرع والديهما. يبتعد كارازان في فيلمه عن الغنائية والبكائية والأدلجة التي غالباً ما يقع فيها غالبية المخرجين القادمين من مجتمعات ذاقت ويلات الديكتاتوريات، فهو ينتهج لفيلمه قصة تتحرى الضحك في تفاصيل مغامرات طفلين يبحثان عن منقذ، ويستغرق في البحث في تلك التفاصيل عن معاناة شعب بأكمله عرف الحرمان والقهر والعسف والشتات. نال “بيكاس” جائزة الجمهور في مهرجان دبي السينمائي 2012، وكانت تلك بداية الفيلم مع الشهرة والجوائز، وحينها بدا أن الفيلم لم يخاطب سوى مشاعر الجمهور، ولم يقترب سوى من ضحكاتهم، فكافة جوائز المهرجان التي يقررها النقاد تجاوزته، بيد أنه حاز لاحقاً على عدة جوائز من مهرجانات أخرى، بينها مهرجان الخليج الذي يقام هو الآخر في دبي. استطاع قادر كارازان التحكم بتدفق وتلقائية الطفلين سيامند طه وسرور فاضل، ويتمكن بذكاء من إدارة التساؤل الذي يداعب مخيلتيهما كبطلين للفيلم، إن كان يمكن لسوبرمان القضاء على صدام حسين، ثم يتوقف بسرعة عن ذلك، وينتقل إلى مرحلة أخرى، هي اتخاذ القرار وتنفيذه مباشرة، ولكي يتمكن من إثارة الدهشة والضحك في ذات المشاهد؛ فإنه يلجأ إلى استخدام الكوميديا أكثر ومن خلال مخيلتي الطفلين أيضاً، فالسفر إلى أميركا يحتاج بالتأكيد وسيلة مواصلات، ولأنهما لا يملكان هذه الوسيلة، يقرران اللجوء إلى أبسط الحلول، فيستخدمان حماراً في رحلتهما التي تنتهي بالفشل، لكنها تلهّمهما تدريجياً إلى أنهما أصبحا بطلين لا يحتاجان إلى سوبرمان، بل إلى ذاتيهما متحدتان في مواجهة قسوة الحياة، وتلك إشارة رمزية أخرى إلى ضرورة تخلي المجتمعات عن أوهامها واستجدائها لقوى الغيب، والاكتفاء بتوحد المشاعر والضمائر والجهود، بل إنهما يكتشفان أن كل شيء يمكن أن يكون لهما حقيقياً وكاملاً إذا ما حاولا البحث عنه في الوطن، وليس في أميركا، ولهذا يعودان أدراجهما. لكن الفيلم وهو يحاول تحقيق هذه الرسالة، وقع في سقطات هامة على مستوى الدراما، فالطفلان يواجهان مجتمعاً يفترض أن يكون مألوفاً لديهما، وأن يكون غالبية من فيه يعرفهما عن قرب، بيد أن هذه المجتمع يتعامل معهما بوصفهما يتيمين فقط، ويتجرد من إنسانيته في التعاطي معهما، وهو أمر يصعب تصديق حدوثه، فمهما يكن، لا يوجد مجتمع بكامل أفراده، وتلك القسوة والفظاعة تجاه أيتام، إذا غالباً ما يحظى الأيتام بالكثير من الشفقة والرعاية، وفي المقابل يتعرضون لاضطهاد واستغلال، لكن كارازان وضع كل البشر تقريباً في مواجهة زانا ودانا، حتى في مباريات كرة القدم يلعب الطفلان لوحدهما ضد جميع الأطفال. بيد أن الفيلم وقع في مواجهة كل ما هو عراقي والسخرية منه، وكان بإمكانه تجاوز ذلك، لكن إفراطه في الكوميديا غير المنطقية من ناحية ليسخر من الضباط العراقيين، أو في بحثه عن نجدة لأحد الطفلين الذي داس على لغم وبقي ثابتاً في مكانه في انتظار إغاثة يرفض العراقيون تقديرها والتعاون معها، فلم يعد صدام حسين هو العدو الأوحد، بل يصبح العراقيون هم أعداء كاملين للأكراد، وقد يكون ذلك حدث بدون وعي. ووقع كارازان في فخ السذاجة مرات كثيرة، فهو يستخدم قصة قديمة ومبتذلة تستخدم في العصي للدلالة على فائدة التوحد من أجل القوة، وهي قصة لا يجدر بمخرج سينمائي أن يدرجها في فيلمه، حتى وإن كانت في تجربته الأولى كحال كارازان في هذا الفيلم، بيد أن تقنية التصوير التي استخدمها كارازان تخطت الكثير من عيوب الفيلم ومشاكله، وحققت مكاسب بصرية لصالحه. اندفعت الكاميرا بإسراف في التركيز على حياة وفقر الأكراد دون اجترار ذلك في الحوار أو افتعال الأحداث التي يمكن لها أن تصف هذا الحال، واكتفى الفيلم بنموذج الطفلين كتعبير مباشر وصادم عن مدى فقر وبؤس المجتمع الكردي، كما أن حيوية الكاميرا في الاقتراب من التفاصيل ومعانقتها، ساهمت في تأكيد ما يريد المخرج إيصاله أو إثباته من رسائل وقناعات في الفيلم. وإذ حاول المخرج إضفاء مسحة رومانسية على الفيلم من خلال قصة الحب بين الطفل الأكبر وجارته التي تقاربه في العمر؛ فإنه لم يكن موفقاً في ذلك، حيث بدت القصة مفتعلة ومدرجة من خارج سياق القصة، ولم تأتِ ضمن الحالة الشعورية لحظة كتابتها، كما أنها لم تملك مبرراً درامياً ومنطقياً، بل وأكثر من ذلك أنها شهدت مقاطع ميلودرامية غير منطقية، حيث تقوم الطفلة بتقبيل حبيبها رغم نظافتها وأناقتها وقذارة ملابسه وجسمه، وإذ يمكن التغاضي عن هذا الأمر في عالم الطفولة، إلا أن القبلة لا تحدث بين طفلين في بداية علاقتهما.. نجح “بيكاس” في تنمية الأفكار والأحلام في مخيلة الطفلين وإنضاجها، وهذا أكثر ما ميز الفيلم وجعله تجربة تستحق الاهتمام، بيد أنه أسرف في محاولة إضحاك المشاهد من خلال الصفعات التي تكررت بدون مبررات غالباً، وبدون رد فعل مناسب لها، ومثل ذلك ميلودراما العناق، حيث التكرار في السينما يفقد الفعل أهميته وضرورته. [email protected]