في “ الرياض” .. فرض نفسه ملحاً للبطولة الخليجية .. صال وجال .. وخطف الأبصار والأمصار .. وكان بؤرة للأنظار .. ارتفع عاليا بنشيده حتى عانق النجوم .. بسط الظلام نفوذه على “ خليجي 22” .. وفي الليلة الظلماء اكتمل “ هلاله” بدرا .. بضيائه وزع أشعته الفضية لتبدد دجى الليالي الحالكات السواد . تغزلوا به وبملاحمه .. وتفننوا في توزيع “ المانشتات” المنصفة على صدور الصفحات الرياضية وغير الرياضية ..نسجوا حوله حكايات من “ ألف ليلة وليلة” .. وتمددت أخباره .. كان مطلوبا في المنتديات .. في البوفيهات المفتوحة والمغلقة .. وكتبوا عنه “معلقات” بمداد الإشادة .. لولاه لماتت البطولة جماهيريًا. تعددت دروس ولائه .. وتنوعت ملاحم عطائه .. ووحده وزع علينا “ الشهد” .. في ريق “ أفواههم” عسل فيه لذة للشاربين .. ولم تكن “إلياذته” مجرد ذكرى مركونة على رف “ كان يا ما كان” .. ولم تكن “ مقامته” مجرد هاجس ولد في لحظة انفعال . أبدا لم يكن إلا “ سنونو” يحوم في سماء “ الرياض” .. وكيف لا يعود “ السنونو” بكل الربيع .. وقد أعياه الانتظار .. وأضناه الاحتضار وتسرب في داخله “ غاز” الانتحار .. لتلك الاشجار الباسقة .. غنى من “ قلبه” للنخيل للرطب الجني الذي بات وجبة حلوة تلوكها أفواه .. صائمة أنهكها “ هلال” العيد . كان الحلوى في المدرجات .. والحبة السوداء التي تصلح لكل داء عدا “ السام” .. وكان “ فرقدا” في المدرجات .. توزعت شهبه .. وتكاثرت نيازكه .. على أكثر من مساحة .. لقد صار حديث “ المدارس” في “ الرياض” .. وكراسة يوم صباحي يسبق الاستراحة .. نظر الخليجيون إلى “ ثرياه” في ليلة ليلاء .. وهتف أحدهم : لقد سرقوا من مخابئنا فرحة العيد .. لقد استعمروا قلوبنا .. وبنوا في غرفها معابد للمجد وقت الجد .. لقد سمدوا أرضنا الجرداء القاحلة .. وها هي واحة خضراء تغني للماء والخضرة والوجه الحسن . بهرتهم أضواؤه .. وشدهم حديث المجالس .. ترقبوا تلك “ الزرافات” المتدافعة .. وتحت سماء تنبض بالغيوم .. رست “ الدهشة” على مرفأ الحناجر .. اغتسلت بدموعهم .. وهو ينشدون وطنا تتلاعب به السياسة في حضور “ إبليس” .. توشحوا بألوان بلدهم .. علهم يعلمون “ الساسة” دروسًا في “ صكوك” الوطنية المجانية .. في عقولهم لاح فجر “فرحة” .. وفي قلوبهم مجرات تتوعد بالمسرات أرسلوها من المدرجات لعل الرسالة تصل لمن يدمرون وطنهم بسيف “ أرياط” .. وأفيال أبرهة الاشرم. رب العمل خصم على أحدهم مصروف يومه فقط لأنه أغلق محل أكل عيشه في “ جدة” .. وكتب يافطة تنبض للوطن : آسف المحل مغلق لمتابعة لقاء المنتخب اليمني مع المنتخب السعودي . قطب الزبون حاجبيه .. اندهش من هذا الكائن العجيب الذي يتمسك بالأمل ووطنه ينتحر تحت الرماد .. تقبل الخصم من راتبه بروح وطنية وعاد من الملعب رغم الخسارة الموجعة .. متبسما .. يومها نام على “ الرصيف” .. وفي منامه رأى وطنا يسقيه “ الحليب” .. يدنو منه .. ويسكب في عيونه كحل الفرح والمرح . بكته البطولة كثيرا .. فقد كان سكرها .. وملحها .. وفاكهتها .. أسدل الستار على النهاية قبل الأوان .. وانتهت الحكاية مبكراً .. كان دعاء المنظمين أن يبقى في المدرجات أن يوزع زنابقه وأن يعطرنا بهتافاته .. ويسقينا ماء سلسبيلا بأمواجه الهادرة التي انحدرت في المدرجات لتروي ظمأ كل عابر سبيل . ما أقسى أن تلعب يا عزيزي في مدرجات خاوية.. وما أصعب أن تفارق الجمهور اليمني الجمهور العاشق للكرة .. والمحب لوطنه .. ولتراب أمه الثكلى التي لم تغادر تابوت الحداد طفل توشح بعلم بلاده .. غطت الألوان ملامح وجهه البريء .. تسلق الأعناق ليصل إلى أبعد مدى .. ليلتها غنى الصغير لوطن ينتحر .. هتف حتى أعياه السهر .. ولم يداعبه النعاس .. ظل يلوح .. يهتف .. ينشد .. وفي ثورته التحفيزية كان يبحث عن بقايا وطن .. عن حضن يضمه في أرض الجنتين .. وعن مشروب قهوة من مزارع بلاده الحبلى بالخيرات . جذبته العدسات الملونة .. وتناقلت صورته الفضائيات ووكالات الأنباء .. وسألوا مندهشين: من أين جاء هذا الجمهور ؟ وإلى أي موطن ينتمي ؟!. وعلق أحدهم ذاهلا : شعب تعصره المآسي تغتاله التعنتات السياسية .. تخنقه الحروب حتى الغروب .. ينام على أزيز الرصاص ودانات المدافع .. ويصحو على كوابيس السيارات المفخخة .. ومع ذلك يبتهجون .. ويترنمون لموطنهم السليب .. أنهم فدائيون في المدرجات تماما مثلما أن فريقهم يضم مجموعة من الفدائيين داخل الملعب . كل الأطياف في “ الرياض” ابتهلت لله أن يبقى هذا الجمهور في المدرجات حتى لا يكتب خروج المنتخب اليمني من بابه الواسع .. المشهد الأخير من التدفق الجماهيري العجيب. حتى السعوديون .. تمنوا أن يساندهم الجمهور اليمني .. وأن يبقى وفيًا لوطنه الثاني قال “ لوبيز كارو” مدرب المنتخب السعودي : إذا ساندنا الجمهور اليمني بنفس الحماس والقوة .. أضمن لكم الفوز بكأس الخليج .. وكأس آسيا. حقيقة كان “ الأخضر” السعودي الملثم غريبا في بيته .. مؤازرة على استحياء .. ومساندة تكاد لا تذكر .. ووحده الجمهور اليمني المبهر اندفع بتلقائيته الوطنية خلف منتخب بلاده .. تقاطروا أرتالا وزرافات إلى ملعب الملك فهد وهناك .. رسم اللوحة الخالدة ضاربا أروع الأمثلة في المساندة والفاعلية . قال لي “ خالد الحربان” المعلق الكويتي الشهير: من يمتلك هذا الجمهور الخرافي لا يمكن أن ينهزم . وكان “ الحربان” محقا وهو يدلي بشهادته .. رجل خبر الملاعب وخبرته .. وهو يعي ما يقول .. وعندما ينتزع الجمهور اليمني شهادة من هذا النوع .. فهي أبدا لا تحتمل المجاملة وجبر الخواطر .. بقدر ما هي حقيقة دامغة أذهلت المتابعين .. وسمع صداها من به صمم . لقد أتى الجمهور اليمني بما لم تأت به الأوائل .. جاء برغبته في إحياء التراث الوطني الذي باد .. وجاء من مختلف الاصقاع ليبرهن أن الإنسان اليمني عاشق قديم للرياضة ولمنتخب البلد .. وجاء ليؤكد أنه الرقم الصعب الذي ستفتقده البطولة في الليلة الظلماء .. وجاء ليوزع علينا دروسه الوطنية بالمجان .. ربما تصل رسائله للأخوة الأعداء الذين فرقتهم السياسة ووحدتهم الرياضة .. وربما تردم هوة الخلافات والنزاعات بين ذوي القربى .. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة . غادر المنتخب اليمني بطولة الخليج من الباب الكبير بعد أن كسر حاجز النقطة .. ومع خروجه هدأت المدرجات .. وانخفض غليان المد الجماهيري الجارف .. في وقت ينظر المنظمون لبطولة “ خليجي 22” إلى المدرجات وقد استحالت إلى أطلال من الذكريات .. ولسان حالهم يقول : نعم لقد خسرنا الجمهور اليمني .. عطر البطولة وأريجها .. ملح الدورة وسكرها.. فالمزاج لا يعتدل إلا وجماهير اليمن تملأ المدرجات صخباً وضجيجًا .. ولا عزاء للفائز ببطولة غادرها عطر سبأ الفواح .