الشِعرُ في اليمن وكافة الفنون الأدبية ترافقا وتفاعلامع كُلِّ الأحداث التي مَرَّتْ بها اليمنُ، وبالأخص ثورة (سبتمبر وأكتوبر) التي قامتْ ونهضتْ ضد الاستغلال والاستعمار والاستبداد والهيمنة والجور الذي عانت منه اليمن قبل قيام الثورة.. وقد مَثَّلَ الأدبُ كما أشارت كتب التاريخ وأحاديث المناضلين لدى جيلِ الأحرارِ والمناضلين الوقودَ الذي لا غِنى عنهُ والحافِزَ الذي دَفَعَ بِهم إلى مواجهةِ العدوانِ ومُقارعةِ الطغيانِ بِكُلِّ شجاعةٍ وبسالة؛ حين كانتِ القصائدُ الشعريةُ والأغاني الثوريةُ تُلهِبُ الحماسَ وتزيدُ مِن رباطةِ الجأشِ، فمن الأغاني الثورية التي كان لها حماس كبير التي غنَّاها الفنانُ القديرُ المرحومُ محمد مرشد ناجي كما ذكر كتاب تاريخ الأُغنية في لحج وعدن وأبين، محمد بن ناصر العولقي: أنا الشعبُ زلزلةٌ عاتية أنا الشعب أنا الشعب ستُخمِدُ نيرانَهم غضبتي أنا الشعب هذه الأغنية كان يُرددها الأحرارُ الذين بذلوا أرواحَهم رخيصةً لأجلِ نيلِ الاستقلالِ الكاملِ وطردِ المستعمر مِن الأراضي اليمنية، وانعكسَ كما ذكر كتاب العولقي بجلاءٍ في ما كان يرددهُ الشعبُ بأسرِهِ خلفَ الفنان المناضل محمد محسن عطروش مخاطباً الاستعمار: بَرَّعْ يا استعمار بَرَّعْ مِن أرضِ الأحرار مطالبة بالرحيل وفي هذا السياقِ وفي المعنى نفسِهِ اندفعَ الشعراءُ الشعبيون يكتبون ونظموا القصائدَ التي نددت بالوجودِ الأجنبي وطالبت مِنهُ الرحيلَ كما في قولِ شاعرِ أبين الكبير أحمد عمر مكرش كما جاء في ديوانه “صوت من الريف” : بَرَّعْ مِن أقطار الجنوب المحمية برع بلاد الغرب يا نُجَّاسها لابُد من دق العجوز الكاهنة دق التلف حتى توطي رأسها الجديرِ ذكرُهُ أنّهُ لولا الإرادةُ القويةُ التي تمتعَ بها الأحرارُ الذين ناضلوا باستبسال لأجلِ نَيْلِ الاستقلالِ الكاملِ لما تحققتْ تلك الانتصاراتُ التي أدَّتْ في الأخيرِ إلى طردِ آخر جندي بريطاني من اليمنِ في الثلاثين من نوفمبر 1967م وبتصميم وإرادة شعبية كبيرة وقوية، والشعوب حين تصحو وتثور لا يقفُ في طريقِها شيءٌ أبدا كما قال الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي: إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة فلابُدَّ أنْ يستجيبَ القدَرْ ولابُدَّ للظُلمِ أنْ ينجلي ولابُدَّ للقيدِ أنْ ينكسِر وقفات جادة وقد وقف المناضلون وقفات جادة في وجوهِ المستعمرين والمستبدين لم يَكُنْ لهم مِن حاجةٍ سوى تحريرِ أوطانِهم مِن ذلك الجورِ والظلم والاستبداد، ولذلك فقد خَلَتْ أنفسُهم مِن الأطماعِ الشخصية، وهذا هو ما دفعَهُم إلى بذلِ نفوسِهم رخيصةً زهيدة، لأنَّ هدفَهم كان أسمى؛ وطموحَهم أعلى مِن أنْ يعملوا لمصالح ضيقة زائلة.. وهذا ما قاله وجسَّدَهُ المرحومُ الشاعرُ الكبيرُ إبراهيم الحضراني : كَمْ تعذبتُ في سبيلِ بلادي وتعرَّضتُ للمَنونِ مِرارا وأنا اليومَ في سبيلِ بلادي أبذلُ الروحَ راضياً مُختارا زامل شعبي كانتْ الإمكانيات لدى اليمنيينِ قليلة جدا مقارنة بالقوةِ الضاربةِ التي تملكُها بريطانيا فلمْ يستسلِمْ اليمنيون لذلك الوضعِ المُخزي المُهينِ الذي يعيشونَهُ تحتَ سيطرةِ المُستعمِر، ولهذا دافعوا بقوَّةٍ بإرادةٌ صلْبَةٌ؛ وبذلوا كُلَّ ما في وسعِهم وعبرَ كُلِّ الشرائحِ لإيصالِ أصواتِهم للمُحتَلِّ؛ ومِن ذلك ما فَعَلَهُ أهلُ الضالع حين قام مندوب الاستعمار البريطاني بزيارةٍ للأمير شعفل بن علي, فاستقبلوهُ بزامل شعبي يقول : يا المعتمد لا تقول المحمية با تعطيك يا عدو طول الزمان حتى لو جبت طيارة على كل عينة ما بتحصِّل أمان ويُعتَبَرُ الشعراء هم أوَّل مَنْ نادى بطردِ المُستعمِر والوقوفِ صفاً واحداً في وجهه، يقول الشاعر حسين البار : إلى اللهِ والتاريخِ ما فَعَلَ الغرْبُ فَهَلْ مِنْ مُجيبٍ يا بني يَعْرُبٍ هُبُّوا أضاليلُ مِن مَسِّ السياسةِ طوَّحَتْ بِكُمْ يا رِجالَ الغربِ حسبُكُمُ حَسْبُ الثأر للكرامة ومن اتجاه آخر أهاب الشاعر عبدالرحمن السقاف مُحرِّضاً لكل اليمنيين لحميتهم من أجل الاستنفار الشامل لطرد المستعمرين؛ وذكر لهم بخزي التقاعس عن الثأر للكرامة؛ والذل والهوان الذي سيطالهم أكثر وأكثر إذا ظلوا تحت ربقة المستعمر.. يقول عبد الرحمن السقاف في ديوانه: أينَ الحَمِيَّةُ والآمالُ والهِمَمُ أينَ العزيمةُ أينَ المجدُ والشمَمُ أينَ الشعورُ الذي تحيا الشعوبُ بِهِ أينَ الحياةُ التي يدري بها الألَمُ مَنْ لا يغارُ لغزوٍ تافهٍ وَهِنٍ فلَنْ يغارَ إذا ما نِيْلَتِ الحُرُمُ هذا الوجودُ الذي لا فضلَ فيهِ لنا على بهائِمِنَا سيَّانَ والعَدَمُ وقفة رجل واحد وكما هو معروف طبيعة النضال اليمني ضد المستعمر البريطاني نجد أنَّ كل فئات الشعب قد قامت ووقفت له بالمرصاد وقفةَ رَجُلٍ واحدٍ مِن شتى المناطق اليمنية، فحين كان الشِعرُ الغنائي يجلجل صادحاً كان الشِعرُ الشعبي إلى جانبِهِ يُلهبُ الحماسَ ويُطوِّقُ القلوبَ بتصميمٍ من العزيمة الصلبة للمُضيِّ قُدُمَاً في وجهِ المستعمِر، وفي ذلك يقول الشاعر أحمد مكرش في قصيدةٍ طويلة تضمنها ديوانه “صوت من الريف” أكِّد فيها تضافر الجهود اليمنية بين الشمال والجنوب, وكذا جهود الأشقاء العرب الذين وقفوا بجد مع الثوَّار اليمنيين في ثورتهم الشرعية ضد إنهاء التواجد البريطاني في اليمن: سرى واه جسي لو كنت فاكِرْ وخرِّجْ كل ما فيها لارادهْ معي ناصر وقوات ابن عامرْ تدق العدوْ ما همّتْ جهادَهْ معه لبطال كمّنْ هجْ فاطر على استعداد لاحتجنا سعادةْ وسلَّال اليمن بالدعم حاضر يشل الجور من قوة فؤاده وكم أبطال راحوا في المقابر من المخلوع ذي كثر عناده عجوز النحس من أرضي مسافر مسافر أرضها أرض القراده ربطنا عفشها في حبل دامر مع الصدات ما فيها رداده شعب واحد هذه المقطوعة الشعرية للشاعر الشعبي أحمد عمر مكرش جسدت التلاحم الوطني في أبهى صوره؛ حين ذكر ما يمكن أن يعملَهُ المشير عبدالله السلَال والجيش اليمني مع إخوانهم في الجنوب آنذاك، بل وذكرهم بفخر واعتزاز لا مثيل له.. لماذا؟ لأنَّهُ كان يخلو من عُقدَةِ المناطقية التي بدأتْ تطفح بها بعضُ الأقلام المرتزقة هذه الأيام، والأصلُ أنَّ اليمنَ كانَ ولا يزال وسيظل شعباً واحداً، ولا مجالَ فيه لدعاة التشرذم والانفصال حتى وإنْ حنّوا لعهدهم الشمولي المستبِد، فهم حفنة وشرذمة قليلون وفترة الحكم الشمولي كانت أيضاً فترة قصيرة لا تكاد تُذكَر بجانب التاريخ والماضي اليمني الموحَد. ولعَلَّ هذه المقطوعة الشعرية رَدٍّ واضح نذكرُهُ هنا ليُفحِم دُعاةَ المناطقية والانفصال. الجنوب والبردوني إن قضية المحميات الجنوبية لم تكن قضية محدودة بل قضية عامة تهم كل اليمنيين في الشمال والجنوب دون استثناء، ولم تكن توجد أصداء لنغمات المناطقية المقيتة التي يرددها البعض اليوم من أصحاب الأطماع الشخصية الضيقة بدليل أنَّ الشعراءَ الشماليين كانوا أوَّل مَن ندَّدَ بالتواجُدِ البريطاني في الجنوب ومِن أوَّل مَن دعا إلى مقارعة الاستعمار وإخراجه من اليمن. فهذا الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله البردوني وهو يُلقي قصيدة في ذكرى المولد النبوي الشريف للرسول صلى الله عليه وسلم لا ينسى وهو في غمرة هذه المناسبة الدينية أنَّ هناك جزءاً عزيزاً وغالياً من وطنِهِ يرزحُ تحتَ نَيْرِ المستعمِر وسطوته واستبداده؛ فيتطرق لذلك مُذكِّرَاً كل اليمنيين ومتأسِّفَاً على حال الجنوب تحت الاحتلال مِن خلال قصيدته ذائعة الصيت “بشرى النبوة” والذي قال فيها: يا قاتِلَ الظُلمِ صالتْ ها هُنا وهنا فظائعٌ أينَ مِنها زندُكَ الواري أرضُ الجنوبِ دياري وهي مهدُ أبي تئِنُّ ما بينَ سفَّاحٍ وسِمسارِ يشدُّها قيدُ سجَّانٍ وينهشُها سوطٌ ويحدو خُطاها صوتُ خمَّارِ فكيفَ لانَتْ لجلَّادِ الحِمى “عَدَنٌ” وكيفَ ساسَ حِماها غدرُ فُجَّارِ وقادَها زُعماءٌ لا يُبرِّرُهُم فِعلٌ وأقوالُهم أقوالُ أبرارِ أشباهُ ناسٍ وخيراتُ البلادِ لهم يا للرِجالِ وشعبٍ جائعٍ عارِ أشباهُ ناسٍ دنانيرُ البلادِ لهم ووزنُهم لا يساوي رُبْعَ دينارِ ولا يصونون عندَ الغدرِ أنفسَهُم فهل يصونون عهدَ الصَحْبِ والجارِ؟؟! الزبيري يطرد الاستعمار أبو الأحرار الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري هو الآخر كتب مُندِّدَاً بالوجودِ البريطاني وهو يستعجلُ طردَ المستعمِر حيث قال: متى يرى الإنكليزيون ذِمَّتَنا كَذِمَّةٍ حقُّها تُرعى وتُحتَرَمُ فيا بريطانيا عُوْدِي بمخْمَصَةٍ إنَّ العُروبةَ لا شاءٌ ولا نِعَمُ إنَّ العُروبةَ جِسْمٌ إنْ يَئِن بِهِ عضوٌ تداعتْ لَهُ الأعضاءُ تنتقِمُ إنْ يُضطَهَدْ بعضُهُ فالكُلُّ مُضطَهَدٌ أوْ يُهتَضَمْ جُزؤهُ فالكُلُّ مُهتَضَمُ في هذه القصيدة يجسد الزبيري التلاحمَ الوطني في أبهى صوره مستمداَ من النص النبوي الشريف معانيه حين يرتكز على قول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): “مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى مِنه عضوٌ تداعى له سائِرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى”. خطاب صارم وكم هو جميلٌ ذلك الخطاب الصارم الذي وجهه الدكتور محمد عبده غانم للجندي البريطاني في قصيدته التي قال فيها : ارفعْ يديكَ على السواءِ ** ارفعْهُما حتى السماءِ إيَّاكَ أنْ تهوي ذراعَكَ مِن فُتورٍ أو عياءِ فلأمنحنَّكَ ركلةً ** في أُمِّ رأسِكَ بالحِذاءِ أو لَكْمَةً في البطنِ تطويها وتعصفُ بالغشاءِ لغم مؤقت هناك العديد من القصائد الشعرية وصفت حالة الجنوب اليمني قبيل الاستقلال ومن الأوصافِ الدقيقة التي وصفَ بها الشِعرُ حالة الجنوب اليمني قُبيل الاستقلال ما كتبه الشاعر المناضل محمد سعيد جرادة في قصيدته التي وصف فيها المشهد بدقة حينما تحوَّلتْ أرضُ الجنوب إلى لَغَمٍ مؤقَّت حيث قال: وحينما ضاقَ صدرُ الشعبِ واكتشفتْ عيناهُ في فجرِهِ أُولى التباشيرِ قادَ الطلائعَ مِن أبنائِهِ زُمَرَا كهائجٍ مِن عُبابِ اليَمِّ مسحورِ شبيبةً وكهولاً كلهم أسدٌ يُكشِّرُ النابَ في عزمٍ وتشميرِ مِنْ كُلِّ مُحتضِنِ الرشاشِ تحسبُهُ مِن جسمِهِ أصلَ عضوٍ غيرِ مبتورِ هُمْ حوَّلوا كُلَّ شِبْرٍ مُقفَلاً أشبا يُصدِّرُ الموتَ مِنهُ أيَّ تصديرِ أرضُ الجنوبِ جميعاً أصبحتْ لَغَمَاً لمْ يجدِ سمعَ العِدا إنذارُ تحذيرِ طلائع الثورة توالتْ دعواتُ الشعراءِ والأُدباءِ لإنهاء التواجد البريطاني في الجنوب اليمني المحتل بدأتْ طلائعُ الثورة تبدو جلية مِن خلال النضال المسلح الذي شارك فيه معظم الشعراء والفنانين، الذين كانوا فعلاً هم وقود الثورة بكلماتهم التي حفزت الشعب اليمني بأسره ودفعته إلى الخروج من قمقمه والتوجه لمقارعة الاستعمار بقوة السلاح بعد أنْ وصلوا إلى طريق مسدود معه خلال المفاوضات التي تبيَّنَ أنَّ بريطانيا تستغلها لتُطيل من أمد التواجد في اليمن.. وهنا ينبري شاعرُ لحج الخضيرة مبروك سرور ليؤكد فعلاً أنَّ بقاءَ المستعمِر قد طال وأنّهُ قد آنَ أنْ يتمَّ ترحيله، ولم ينس خلال ذلك النص الشعري الشعبي أنْ يُحفِّزَ إخوانه اليمنيين الذين جنحوا إلى مُهادنة المستعمِر والدخول معه في مفاوضات لا جدوى منها.. لم ينسَ أنْ يقولَ لهم أنَّ ما أُخِذَ بالقوَّة لَنْ يُسْتَرَدَّ إلَّا بالقوة: طالَ يا راجِل سكونك عندنا قرن والثاني انتصف وانته هنا ذي بلادي وأنا فيها أصيل ما أنا مثلك نقيلةْ أو نزيل ذي معك يكفيك من مالي الجزيل روح لك بس لا تكدر عيشنا مَن دخل بالغصب يخرج بالمصيل با يخلي أرضنا صاغر ذليل با يقع يوم الجلاء ما له مثيل أعظم الأعياد في أوطاننا يا شاكي السلاح وهَبَّ الشعبُ اليمني من سباته وقاتلَ ببسالة ضد المستعمر البريطاني حتى يوم جلاء آخر جندي بريطاني في الثلاثين من نوفمبر 1967م بعد رحلة طويلة من الكفاح المسلح الذي قادَهُ المناضلون والشرفاءُ من أبناء هذا الوطن الغالي، والذين كان الأدباء والشعراء والفنانون في مقدمتهم، وعند ذلك فقط خرج الشاعر الكبير عبدالله هادي سبيت ليهتف بغنائيته التي ردَّدَها الشعبُ بأسرِهِ خلفَ الفنانين وهو يقول: يا شاكي السلاح شوف الفجر لاح حط يدك على المدفع زمن الذل راح زمن الذل راح