حين يبدأ المثقف تجربة الكتابة للآخر، فإن أول ما يستولي على اهتمامه هو الرغبة في امتلاك أسلوب لغوي جذّاب أو متين – حسب ما يراه مثالياً – وكثيراً ما يفتتن الكاتب الصاعد بأسلوب كاتب شهير، يصبح مثله الأعلى في الكتابة، وقد يفتتن بأكثر من أسلوب لأكثر من كاتب، ويقع في حيرة الاختيار والتبني، وقليل من الكتاب من يجعل من هذه التجربة مخاضاً لميلاد أسلوب خاص يدل على صاحبه وحده. وكان لصاحب هذه السطور تجربة في هذا الباب تستحق أن تروى: ففي مطلع حياته المعرفية – أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي – تعرّف الفتى على مؤلفات الأديب اللبناني الكبير مارون عبّود، قبل أن يتعرف على أيّ من كتاب العربية الكبار الآخرين، إذ لم يكن حينها قد تجاوز مرحلة الاطلاع في أدب الأطفال والناشئة بعد، ومع أن كتاب “مناوشات” لم يكن من الكتب ذات الطبيعة الأدبية الخالصة لمارون عبود، إلا أن أسلوبه الأدبي قد ترك في نفس الفتى أثراً قوياً دفعه للبحث عن بقية تراث المؤلف، وظل مارون عبود – عند صاحبنا – سيّد الكتابة إلى أن عثر على نزار قباني بعد ذلك!. لقد كان اللقاء بنزار قباني حدثاً استثنائياً في حياة صاحبنا، يشبه لقاء نيوتن بالجاذبية، ولقاء داروين بالنشوء والترقي، ولقاء آينشتاين بالنسبية!. فلم يكن أسلوب نزار وحده هو الذي أصابه بدوار الدهشة، بل إن محاسن القدر قد جعلت باكورة هذا اللقاء مع كتاب ذي طبيعة خاصة هنا هو كتاب “الكتابة عمل انقلابي” وظن صاحبنا من لحظتها أن أسلوب نزار الساحر هو نهاية الأساليب الكتابية (قياساً على: نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا)، وأنه يُعلى ولا يُعلى عليه، فذهب يتأمل هذا الأسلوب ويقتص أثره ويحاكيه، في نشوة ذات خدر لذيذ، قائلاً في نفسه: لا أظن أن الله قد سهل من جمال الكتابة وسحرها – في الماضي والحاضر والمستقبل – ما سهل لهذا الأديب!. في فترات لاحقة وجد صاحبنا - الشاب - نفسه أمام حشد واسع من الأساليب الكتابية الجميلة والرصينة، لدى عدد كبير من كتاب العربية المعاصرين، وكان لكل أسلوب جمالياته الخاصة: من السهل الممتنع لطه حسين، إلى البسيط النافذ لتوفيق الحكيم، إلى الموسيقي الآسر لخالد محمد خالد، إلى الحار المحكم لسيد قطب، إلى الأنيق الماكر لأنيس منصور، إلى المفارقة الساخرة للصادق النيهوم، وفرج فودة، إلى المقنن الدقيق لنصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري، .. إلخ. مع المرور على الأسلوب الغربي المترجم المولع بالمفارقة والكناية والمراوغة (كزنتزاكس مثلاً). وحين يقع كاتب صاعد مولع بالجمال في هذا الكرنفال الجمالي من الأساليب الكتابية، لا بد أن يداهمه شعور بالأسى، مثل ذلك الذي يداهم رجلاً مولعاً بالنساء حين يقال له: اختر واحدة فقط من بين هذه المجموعة من الحسناوات، فيقول في نفسه المليئة بالحسرة: ليتني أستطيع امتلاك الجميع!. لقد كان صاحبنا مطمئناً إلى قدرته على تقليد أسلوب واحد من بين هذ الأساليب الكتابية إلى حد ما، لكنه سيشعر بألم الفراق تجاه الأساليب الكتابية الأخرى التي قد يهملها. ولم يدر بخلده - لحظتها – أن اختيار الأسلوب الكتابي ليس بيد الرغبة وحدها، وإنما هو قرار تتخذه مجموعة من الاحتياجات والاشتراطات الكتابية. وقد أدرك هذه الحقيقة في وقت لاحق، عندما حوّل اهتمامه من مجال الأدب إلى مجال النقد والفلسفة. إن التورط في عالم النقد والفكر لا بد أن يدفع صاحبه إلى عقيدة أسلوبية خاصة، تقوم على اللغة المقننة، المرشدة، الدقيقة، التي تأتي على حساب قدر كبير من لغة الاستعارة والتصوير، والتحول من أساليب الشعرية إلى الأسلوب العلمي – بقرار عقلاني خالص – ليس عملاً سهلاً بالطبع، فإنه قد يحتاج إلى عملية قيصرية مؤلمة، لما للمجاز والزخرف الكلامي من إغواء على نفس الكاتب!. وأدرك صاحبنا أن طبيعة المجال والموضوع المطروق، يشاركان الرغبة الجمالية في اختيار الأسلوب الكلامي، كما أدرك طبيعة التنازل الذي سيقدمه لصالح الكتابة الجديدة، ولم يكن يؤرقه بعد ذلك ما إذا كانت اللغة الجديدة مفهومة بالغة لمستويات عدة من المخاطبين أم لا، فالمهم من وجهة نظره - آنذاك – أن تكون العبارة دالة على الفكرة دلالة دقيقة ومكثفة. فالدقة والكثافة شرطان في الكتابة المواكبة للعقل الكتابي الحديث (نقيض الشفاهي)، مهما يكن منسوب الإبهام أو الغموض فيها، وإذا ما ووجه باعتراض من قبل أحدهم قال له: هناك فرق بين الكتابة الرفيعة وبرنامج “ما يطلبه المستمعون”!. وكان لأدبيات الحداثة العربية تأثير قوي في تبني هذه العقيدة لدى صاحبنا، قبل أن يكتشف المفارقة اللاذعة في خطابها أثناء قراءته لكتاب “الثابت والمتحول” لمنظر الحداثة الأبرز د. علي أحمد سعيد (أدونيس)، فقد فتح الكتاب عين صاحبنا على المهمة الأساسية لمشروع الحداثة العربي، وهي الإسهام في إحداث التحول النهضوي العربي المنشود، عبر إحداث نقلة في آليات الفكر والخطاب من الحالة “الاتباعية” إلى الحالة “الإبداعية”، وتكمن المفارقة – كما رآها – في أن الأساليب الكلامية للحداثة العربية، لا تساعد كثيراً في تحقيق هذه المهمة، لما يكتنفها من إبهام وغموض مقصودين في كثير من الأحيان، في حين أن المخاطب المستهدف بخطاب الحداثة ما زال معظمه قابعاً في دوائر الأميتين البسيطة والمركبة. وهو في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى مقدمات نظرية تأسيسية ترتقي به في سلم الوعي والمعرفة، حتى يتمكن من الاتصال بسماء الحداثة!. عند ذلك بدأت عقيدة كتابية جديدة تتبلور لدى صاحبنا، تحاول تلبية مطالب النزعتين الجمالية والعلمية جنباً إلى جنب، في معادلة تضبطها طبيعة الموضوع وحاجته الأسلوبية. بشرط أن لا تأتي غواية ما على حساب الفكرة والمضمون.