في حديثنا عن الثقافة الإيجابية وطرق صناعتها وغاية الوصول إلى سبلها؛ دعني أخي القارئ أقف وإيّاك كمدخل للموضوع مع بعض القوانين التي تدعو إلى الغرابة والدهشة، لكنها ومع ذلك قنّنت وسادت بين الناس وأصبحت ضمن العجين اليومي لحياتهم.. خذ على سبيل المثال، في الهند ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻗﺘﻞ ﺍﻟﻔﺄﺭ إﻻ ﺑﻌﺪ ﻃﻠﺐ إﺫﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، الأسطورة قديمة تعظّم من شأن الفئران في ثقافتهم، وﻣﻤﻨﻮﻉ عليك في ﻛﻮﺭﻳﺎ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﻨﺖ إﻻ ﺑﻌﺪ أﺧﺬ ﺍﻹﺫﻥ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻮﺯﺍﺭﺍﺕ للخطورة التي يمثّلها استخدام الشبكة العنكبوتية دون رقابة من أحد، وفي الكاميرون ﻣﻤﻨﻮﻉ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓ ﺍﻟﺘﻠﻔﺎﺯ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ 12 ﺻﺒﺎﺣﺎً لأنه وقت للتعلُّم والعمل، ومن القوانين الغريبة في مونتانا أنه يُمنع على ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ فتحها ﻟﺠﻮﺍﻝ ﺯﻭﺟﻬﺎ، بل وتُعد ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺗﻌﺎﻗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ لتعديها على خصوصيات زوجها الذي يجيز له القانون أن يكون الركن الأساس في البيت، أما في مطاعم الدنمارك فلا ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻚ ﺩﻓﻊ ﺍﻟﻔﺎﺗﻮﺭﺓ ﺇﺫﺍ ﻟﻢ ﺗﺸﺒﻊ، ﻓﺈﻥ ﺍﻧﺘﻬﻴﺖ ﻣﻦ ﻭﺟﺒﺘﻚ ﻭﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺷﺒﻌﺎﻧﺎً؛ ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺪﻓﻊ، وﻳُﻤﻨﻊ في ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻥ ﺷﺮﺏ أي ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻮﺍﺋﻞ أﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ الماء للخطروة التي يمثّلها انشغال السائق بغير التركيز في الطريق حداً من الحوادث، ويعاقب القانون على ذلك، وتجد نفسك مجبراً بقوة القانون في ألمانيا إلى دفع ﻧﺼﻒ ﺳﻌﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ إﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻧﻮﻉ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ أﻟﻤﺎﻧﻲ ﻭأﻧﺖ ﻟﺪﻳﻚ ﺍﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺍلأﻟﻤﺎﻧﻴﺔ «ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺗﺪﻓﻊ ﺍﻟﻨﺼﻒ ﺍﻵﺧﺮ» وﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺯﻭﺟﺘﻚ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺍﺳﻤﻚ إن كنت من سكان هولندا ﻭﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻻﻋﺘﺮﺍﺽ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ لإيمانها بحق مشاعر المرأة، وللقانون كلمته في ذلك. أما اليابانيون فقد ذهبوا أبعد من ذلك عندما سنّوا قانوناً يجرّم ﺯﻳﺎﺩﺓ الوزن ويُعد ذلك ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻳﻌﺎﻗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، وفي جنوب أفريقيا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﺰﻭﺟﺔ ﺍﻟﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ﺑﺄﻥ ﺗﻌﺮﻑ ﻣﻜﺎﻥ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻓﻲ أﻱ ﻭﻗﺖ؛ ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻮﺿﻊ ﺟﻬﺎﺯ ﻟﻠﺘﺘﺒُّﻊ ﻋﻠﻰ ﺭﺟﻠﻪ حتى تحافظ على بيتها من خيانات الأزواج، وفي الصين رغم ملايين السكان إلا أن القانون يمنع إنجاب أكثر من ولدين عند كل زوج حفاظاً على مستوى مقبول من التضخُّم السكاني. وما سقناه من أمثلة اتفقنا معها أم اختلفنا تبقى موحية بأن ثقافة جرى صناعتها في أوساط هذه الدول حتى وصلت مجتمعاتهم إلى مرحلة القبول والرضا دون الاعتراض على أي من هذه القوانين التي أصبحت مع مرور الوقت من الأمور العادية التي أصبحت ضمن حياتهم اليومية. العجيب أن غالبية هذه المجتمعات إن لم تكن كلها دول غير إسلامية، وليس للإسلام فيها كثير من الحظوظ التي تنعم بها بعض الدول الإسلامية والعربية التي تشرّبت ثقافة الإسلام التي تدعو إلى نهضة مجتمعاتها، لكن الحاصل غير ما ينبغي أن يكون، والأشد إيلاماً هو أن بعض هذه المجتمعات لاتزال تراوح مكانها تتخبط في دياجير التخلف وتصارع طواحين الهواء..!!. وتصنع ثقافة الإيجابية في المجتمعات كما تقرّر شواهد الأيام لاعتماد الكثير من الدول المتقدّمة مبدأ العقوبات الصارمة والمشدّدة فيما يخص تلك المخالفات المجتمعية والسلوكيات السلبية، كان الأولى والأحرى بنا نحن المسلمين أن نؤسّس لمجتمعاتنا مداميك الثقافة الإيجابية التي تحتاجها الشعوب لنهضة مجتمعاتها؛ لكننا وللأسف الشديد نعيش كثيراً من المشاهد التي مازالت عالقة في أذهان من يرون فينا الفوضى والعشوائية لمشاهداتهم التي ارتسمت في عقولهم عنّا وعن المستوى المتدنّي لثقافة الإيجاب في حياتنا مقارنة بمجتمعاتهم المتقدّمة والتي تخطّت كثيراً من مشاكلها بفضل صناعتها للثقافة الإيجابية التي ينعمون بها وبما تعود بالنفع على مجتمعاتهم المتحضرة. إن من المفاهيم التي تغيب عنّا وعن حاضر أذهاننا وعقولنا أننا لا نعبد الله بأمر تكليف، ولكننا نعبده سبحانه لأننا عرفنا جلاله وجماله، ونحن لا نجد في عبادته ذلّاً بل تحرّراً وكرامة؛ تحرّراً من كل عبوديات الدنيا، تحرّراً من كل الشهوات والغرائز والأطماع والمال، ونحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحداً بعده ولا نعود نعبأ بأحد، خوف الله شجاعة، وعبادته حرية، والذل له كرامة، ومعرفته يقين، مفاهيم كم نحن بحاجة إليها كي نعود إلى سابق عهدنا وعهد أمّتنا التي دانت لها الدنيا للحضارة والرقي الذي كانت تمثّله ثقافة المسلمين في العصور الزاهرة. أعرف مسبقاً أن الحديث عن الثقافة الإيجابية في بلادنا حديث مؤلم، والدق على وتره الحسّاس نغم نشاز وموجع للكثيرين منا ممن يتحرّق على حال الوطن الذي وصل إليه، وما آلت اليه أوضاعنا، ولا أريد لذلك أن يكون عامل إحباط، على العكس من ذلك، كم يتمنّى الواحد منّا على الرغم مما أصابنا - أن نبدأ مجتمعياً في صناعة ثقافة إيجابية تكون مفعمة بتلك السلوكيات السويّة والكفيلة بأن تأخذ مجتمعنا نحو آفاق رحبة من النهضة والتطوّر والتقدْم ونحن قادرون، فقط ما علينا إلا أن نستشعر أن كل لحظة في الحياة كنزٌ لا يتكرّر. إذا كانت اللحظات الماضية من حياتنا قد ولّت دون أن نغتنم هذا الكنز؛ كنز الحياة الإيجابية، فهيا نكون من أغنى البشر في تلك اللحظات التي لاح ضياؤها، ولا نطالبها بأن تكون أجمل، لنكن نحن أجملها، وما أجمل قول الشاعر: وإذا ما وجدت في الأرض ظلّاً فتفيّأ به إلى أن يحولا وتوقع إذا السماءُ اكفهرت مطراً في السهولِ يُحيي السهولا إشراقة تفاؤلية ستنمو الأزاهر في خدّها ويعشوشب الغصن في قدّها وفي صبر تحتفي الأمنيات فتنساب راحاً على وهدها ومن نقم سيغنّي الصباح ويسري شعاعاً إلى ميدها وأيوب يتلو حداء المساء ليمحو الجراحات من نجدها بلادي سيختال نعناعها.... وتحدو القلائص في بيدها حداها: (بلادي بلادي اليمن أحييك يا موطني مدى الزمن)