في الغرفة الضيّقة في المستشفى كانت هناك مجموعة من النساء يبكين معي، نساء أشّك أنك تعرفهن حتى، يحكين عنك قصصاً غير صحيحة، إحداهن قالت بغباء: كان يكره الخرطوم..!! هو قال إنه لا يريد أن يُدفن في السودان..!!. حيدري أنا.. لا يكره الخرطوم مع أنه يحب القاهرة. هؤلاء اللاتي لا تشبهنا يتحدّثن عنك في حضرتي، تلك هي الوقاحة، عنك أنت في حضرتي أنا. حيدري، هل تسمع معي كل تلك الأكاذيب..؟!. لا أجد كلمات تسعفني، كيف يجدون كل تلك الأبجدية ويدخلون أيديهم المتّسخة بالزيف ويصنعون لك الحكايات دون خجل منّي ومن حرمة ميتتك. أنا التي أحببتك أكثر منهم جميعاً، هم لا يشبهوننا، لا يعرفوننا، يتحدثن وكأني لم أكن يوماً أنتَ، وأنتَ الذي كنت دائما أنا. كان يجب أن أخرج من الغرفة التي تكرههم أكثر مني، خفت الاختناق، خفت الانفجار، كنت مشتاقة إليك، أخاف أن يرسلوك إلى حفرة لا أعرفها دون أن أراك. سألني: من أنت..؟!. ابنته. العسكري: انظري له سريعاً واخرجي، ممنوع الاقتراب منه. دخلت الغرفة؛ كان هناك كيس بلاستيكي فوق سرير، لم أستطع فتح الكيس الأبيض الذي يخبئوك فيه عنّي وعن الحياة وعن ابنتيك “أمل ومريم”. كيس أبيض طويل جداً يسرقك عني!!، لم أستطع أن أفتح الكيس، أصابعي لم تتجرأ على أن تقترب من ذلك المشمّع الأبيض، أن تراود السحاب، ذهبت أبحث عن العسكري وأنا أبكي: ساعدني، أخرجه من هنا، لا أستطيع فتح الكيس، أرجوك. الرجل أمام دموعي رضخ، جاء معي وفتح الكيس، لكنك لم تكن هناك، كان يوجد الكثير من القماش الأبيض الذي يشبه قلبك الندي، وبعدها فتح القماشة البيضاء وأخرج رأسك لي. ابتسمت لك.. كعادتي كنت نائماً، لم تكن ميتاً كما قالوا لي، تبّاً لهم، كنت نائماً يا حبيبي، لا أعرف ماذا قلت، اكتشفت أني كنت أقول لك: أهلين أستاذي، حيدري، كيفك..؟!. كم أبدو غبية، وفجأة قلت أسال الله العظيم أن يشفيك..!. لا أعرف ماذا كنت أقول، كنت أهذي بك، وأتمتم لك، ولأول مرة ألمس وجهك الذي أحب وأقبل جبينك الندي، الذي كان يسجد كثيراً لله. لا عقاب لتقبيل ميّت...أليس كذلك..؟!. كنت مبتسماً كعادتك يوم تلقاني، يومها لمست ذقنك فتحرّكت شفتاك فسقطت بسمة مني إليك، كم أحب حيدري كم أحبّك. كم كنت أتمنّى أن أحضنك وأبكي وأحكي لك، وأعاتبك: كيف ترحل دون أن تكون ممسكاً يدي، هل كنت تخاف عليّ..؟!. خرجت من المستشفى، هربت بك داخلي، لا أحد هنا ينتمي إلينا، لا أحد ممن يبكون سيفهمونك كما فعلت، سيحبونك كما فعلت. كيف سأذهب إلى أخبار العرب دون أن أجدك في انتظاري، لمن سأحكي مشاكلي، لمن أصنع الدهشة التي تجعلك تضحك كطفل، لن يشوفك أحمد، لن يعرف كم أنت رائع، كم أنت حقيقي..؟!. هل تذكر عندما كنت أقول: حيدري، أنت آخر الرجال المحترمين، هل كان عليك أن تغلق صندوق الرجولة وتلقيه في أبعد نقطة بحرية وتتركنا دون رجل..؟!، كان ردّي هذا عن كل مرّة تسالني: آها.. ما في جديد، هل الرجال عمي..؟!. أضحك: وصم وبكم. تقول لي: حلمت أن تتزوجي رجلاً اسمه إبراهيم، سيأتي.. لا تقلقي أنت طفلة سيأتي. كيف ستفهم ابنتيك، أب بحجم حيدر طه. وماذا عنّي... «إنا لله وإنا إليه راجعون». حيدري... كلما اشتقت إليك... اسمح لي أن أكتب.