احتفى حين تأسيسها أبناؤها بفرح وترقب للقادم الذي حلموا به, أن يكون جميلاً ومكتملاً مولودهم الجديد, الذي يبدو أنه ولد مشوهاً, أو يعاني من سوء التغذية كأطفال المديرية أنفسهم وأمراض أخرى يصاب بها المواليد الجدد كثيراً في هذه المنطقة, التي تظهر فيها بين الحين والآخر أوبئة وعلل, لم تحرك وزارة الصحة ساكناً لاكتشافها ومكافحتها فهي مديرية بلا خدمات, إذ لا وجود للكهرباء ولا للمياه ولا للطرقات أو غيرها.. المضاربة ورأس العارة كانتا مركزين تابعين لمديرية طور الباحة تحولا عام2000م إلى مديرية مستقلة وفقاً للتقسيم الجغرافي والإداري الحكومي حينذاك.. ف “المضاربة ورأس العارة” مديرية من مديريات لحج الطافحة بالألم والغارقة بالمعاناة, تبعد عن مركز المحافظة 100 كيلو متر تقريباً، تتوزع في قرى صغيرة ومتناثرة وتجمعات سكانية, تشكل منطقة كانت في الماضي حدودية ملتهبة لها من الذكريات, التي لا تخلو من المآسي أحياناً لدى الكثير من أبناء تعزولحج... فبدأ الكثير اليوم يضج ويعلو صوته مطالباً ولو بضم قراهم إلى مديريات أخرى مجاورة, للخدمات قليلاً فيها وجود, بالمقارنة مع مديريتهم الغارقة في أسرارها ومشكلاتها التي تتعاظم يوماً بعد يوم.. أسرار لا تنتهي القادم إلى مديرية أبي الأسرار المتصوف الذي مازال ضريحه مقاماً ومزاراً دائماً للناس هنا ومن أماكن أخرى, يشده الحنين لأسرار تختفي ربما خلف الرمال الملتهبة, الضاجة هي نفسها بأسرار من سكنوا من قبل, وهم في بحثهم الدائم والدؤوب عن الحب والألم في دنيا هي فانية, فبقي الكفاف والعوز والفقر والجهل والمرض أسرار دائمة هي الأخرى لا تنتهي ولا تتقادم, ولا تخفى على أحد.. فهي إذاً مديرية ارتبط ذكرها بهذا المتصوف الشيخ علي بن إبراهيم أبي الأسرار, الذي عرف بأنه لا يميل إلى الجاه والمال، بل كان زاهداً يكره الترف والغنى فترك بلاده البصرة واستقر في (جبا) إلا أنه تركها بعد أن عاش فيها أربعين سنة يبحث عن المكان المناسب لمستقره في بلاد خالية, ليتعبد الله فيها بعيداً عن أطماع الدنيا, فكانت إحدى قرى المضاربة المكان الذي نحن بصدد التوغل في خبايها ومحاولة الكشف في عالم هو بحاجة إلى الكشف والرصد والتحقيق معاً.. فهي مديرية جمعت بين الساحل والوادي والجبل, لكنها تمازجت مع تقلبات الطبيعة, فلم يبق فيها سوى الحرمان والإهمال والحاجة الملحة للغائب الذي طال انتظاره, وهو أمل الحياة..فيظل الاحتياج للمنقذ هنا, الغوث بالأولياء بعد أن فقد الأمل بالأحياء, كشف الأسرار المتعاقبة عن من يبعث الحياة في بيئة تفتقر لكل مقومات الحياة, مع غياب تام للبنية التحتية فالماء معدوم والكهرباء ليس لها وجود والطرق ترابية بعضها صعبة ووعرة ذات طبيعة جبلية تزيد من المعاناة والتعب واليأس. التعليم سرٌّ لانهائي من أسرار الفجائع في هذه المديرية أن التعليم فيها غدا شيئاً استثنائياً, آخر اهتمامات المسؤولين, والأمر من ذلك والمحزن أن المواطنين لا يأبهون إلى خطورة غياب التعليم إلا ما ندر, والنادر لا حكم له فقهياً, ولا حياة له واقعياً, فهناك مدارس ليس لها مهمة إلا تزوير الشهادات وصرفها لمن يريدون الالتحاق في الجيش أو الأمن ومآرب أخرى, ولا ينبئك عنها مثل خبير.. في ظل عدم وجود مدارس في قرى تبحث عن التعليم لأبنائها وتحرص عليه كقرية “السرير” التي يذهب أبناؤها إلى مدارس بعيدة تتبع مديرية المقاطرة, على الرغم من أن هذه القرية, تعدّ من أكبر قرى المديرية إلا أنهم المنسيون والمهملون أكثر من غيرهم, فلا أي مبنى حكومي أو غيره قد وجد فيها إلا من مسجد بدئ البناء فيه مؤخراً على نفقة جمعية هائل سعيد أنعم الخيرية, علهم أيضاً يعتمدون بناء مدرسة لأطفالهم فتزيح عن كاهلهم القليل من المعاناة اليومية التي يتكبدها أبناؤهم, وهي المعاناة التي أخبرني عنها أحد أعيانها, وهو نعمان بجاش والذي يتحدث وهو يشعر بالمرارة والغبن لما وصل إليه حالهم, و حال أطفالهم الذين يتكبدون المشقات من أجل الوعي والتعليم والإدراك, الذي كان من المفروض أن يكون مسيطراً في أوساط المجتمع ككل.. فهم بحاجة ماسة إلى بناء مدرسة ابتدائية خاصة بقريتهم ليحسوا بكينونتهم وانتمائهم الحقيقي لهذا الوطن فيطرحون طلبهم, بل استجداءهم على طاولة المسؤولين في محافظتهم, علّهم يجدون مبتغاهم, وأن يتحقق حلمهم الذي انتظروه طويلاً. فالحال كما يبدو تعيساً في مديرية مترامية الأطراف تعد الأكبر في محافظة لحج التعليم فيها سرها الكبير ولغزها الذي يصعب فيه الحل, إذ لا يتجاوز فيها عدد المدارس العشرين مدرسة, الثانوية منها لا تتجاوز الاثنتين, فالكثير من الطلاب يكملون تعليمهم الثانوي في المديريات المجاورة كطور الباحة والمقاطرة. لغز التسرب المدرسي من الألغاز والأسرار التي تكتنزها هذه المديرية وتعليمها الغائب جداً من مخيلة الصغار قبل الكبار لغز التسرب, إذ يتسرب الكثير من الطلاب منذ الصفوف الأولى ملتحقين بالجيش, الذي يستوعبهم أكثر من القطاعات الأخرى, فهي المديرية الأكثر رفداً للمؤسسة العسكرية على حساب القطاعات الأخرى, وهي المشكلة التي ناقشتها مع الكثير من الناس وقد أبدوا استياءهم منها خصوصاً أنها سبب في حرمان أبنائهم من التأهيل والتعليم الحقيقي لكي يتخلصوا من واقعهم المؤلم وهو واقع مديريتهم التي هي بحاجة إلى الخدمات الضرورية والمهمة, فكأن الأمر مدبر ليظل الأمر كما هو عليه ليخدم أطرافاً بعينها كما قال البعض.. لذا ترى النقص في كل شيء, فبعض المدارس مغلقة وبعض المباني لا أحد يقترب منها.. الكادر التعليمي النقص فيه كبير وبأرقام مهولة, مع غياب لكل الوسائل وافتقادها والحلم بملامستها كما أخبرني بذلك أحد المدرسين ويدعى معمر أحمد علي.. لذا يبقى التعليم في هذه المديرية مسألة مؤرقة للكثير ممن يهمهم تعليم أبنائهم والرقي بهم, ولغزاً يريد الجميع فك طلاسمه قريباً, من أجل أن يتنفس الناس الصعداء, ويشعرون بأن هناك من يتلمس همومهم, ويسعى إلى نفض الغبار قليلاً عن متاعبهم, التي كبرت ولم يستطيعوا بعد مجاراتها وتحملها. الصحة طلاسم من سراب للصحة في هذه المديرية حكايات تتوالد وتناسخ باستمرار, ففي كل عام نسمع عن وباء يحصد أرواحاً ويزرع الرعب والخوف في الأرجاء المتلاطمة بالحزن وانتظار المجهول, في واقع يعكس وضعاً كارثياً مؤلماً يعيش فيه الناس تحت رحمة الموت والأوبئة, التي من الممكن مكافحتها والقضاء عليها, في مديرية المرافق الصحية إن وجدت لا تتوفر فيها العلاجات والمستلزمات و التجهيزات مع شحة كبيرة في الكادر الصحي، هجرها الناس وولوا قبلتهم إلى عدن أو تعز, بحثاً عن الشفاء ومن يزيل عنهم آلامهم وتوجعاتهم المستمرة معهم من حين ولادة بعضهم في الغالب الأعم.. بل إن المباني الصحية لا تكاد تذكر في مساحات شاسعة من المديرية, ولا وجود لها البتة للأسف الشديد في ظل غياب تام للسلطة المحلية لأن تعمل على إيجاد مشاريع خدمية في الدرجة الأولى الصحية التي تهم المواطن هنا كثيراً فهي في تماس مع حياته وحياة أبنائه.. مما يطرح تساؤلاً مفاده إلى أين تذهب مخصصات المديرية الشهرية والسنوية من العلاجات والمستلزمات الصحية, وأين هي المشاريع التي من المفترض أن تنفذ في هذه المديرية؟ التي هي بحاجة لمن يطبب عنها جراحاتها, ويمسح عرق أبنائها المنهكين بحثاً عن الدواء.. فتبقى الصحة طلسماً يصعب فك رموزه أيضا نضعها في طاولة المعنيين في هذه المحافظة, لكي لا تتحول آمال الناس وطموحاتهم إلى سراب وألغاز يصعب فكها.. فالناس هنا يريدون أولاً من يفك ارتباطهم بالمرض والجهل والأوبئة الفتاكة قبل غيرها.. للإعاقة سرٌّ كبير عند زيارتي لإحدى قرى المديرية التي اعتصرني فيها الحزن كثيراً, فمن يرى حالهم يجهش بالبكاء حال رؤيته لمعاقين لا يجدون أدنى اهتمام أو رعاية, وربما هو واقع محزن تعيشه المديرية برمتها, فأصحاب الاحتياجات الخاصة “المعاقين” لا أحد يهتم بهم ولا يجدون معيناً لهم في واقع لا يرحم وجهل يغلف كل شيء تقريباً, فحقوق الأصحاء مغيبة, فما بالك بمن ابتلاهم الله, فهم لا حول لهم ولا قوة ونظرات أهاليهم الباحثة عمن يبدد عنهم همومهم وهموم أبنائهم المعاقون, الذين لا يجدون رعاية لا من منظمات أو جمعيات أو من الدولة نفسها ومن القائمين بالأمر في هذه المديرية المعاقة, هي أصلاً كما عبر أحد المواطنين بذلك. ففي قرية السرير لوحدها من المعاقين الكثير ومن أصحاب الاحتياجات الخاصة الذين بحاجة لمن يلتفت إليهم ورعايتهم وتوفير كل الوسائل المتاحة لهم فهناك أسرة لديها طفلان معاقان بصرياً, لكنها لم تجد إلى الآن من يتكفل بتعليمهما ورعايتهما؛ للغياب التام هنا للجمعيات ولمن يوصل مثل هذه الحالات إلى من يهتم بها ويرعاها, بالإضافة إلى إعاقات أخرى جسدية متنوعة زادت من الأجساد إنهاكاً وألماً. غياب التطعيم الصحي من المؤسف وعند استقراء حال من يقطنون في هذه الأرض التي ربما ابتليت بمعاناة لا تنقطع, هي المعاناة التي يعيشونها ويعيشها أطفالهم المحتاجون لكل أشكال الرعاية والاهتمام.. ففي قرية السرير لا توجد رعاية صحية للأمهات الحوامل, وليس هناك تطعيم للأطفال فإلى هذه اللحظة لم يتم توظيف قابلة مجتمعية, أو اعتماد من يقوم بتحصين الأطفال وتطعيمهم دورياً كما هو معروف, فالأهالي يرفعون مطالبتهم الحثيثة, عّل من يسمع صراخهم وآهاتهم المكلومة, وهم يلامسون الإهمال والتهميش, الذي وصل إلى فلذات أكبادهم, التي من المفترض أن لا تنقطع عنها مثل هذه الاحتياجات, خصوصاً في التجمعات السكانية, كما هي حال قريتهم التي من الممكن أن توظف فتاة من فتياتها ممن أكملوا اليوم تعليمهم الثانوي أو الأساسي أسوة بالقرى الأخرى, لتكون قابلة بالإضافة إلى عمل اللقاحات لأطفال يتعرضون للإهمال هنا قسراً فيشكل خطراً على حياتهم إذا استمر الحال على ما هو عليه.. لغز المسؤولية في نهاية الرصد لهذه المعاناة التي نتمنى زوالها وانتهاءها من حياة الناس..ما يؤلمنا أكثر غياب المسؤولين في هذه المديرية, الذين يعيشون في أبراج عاجية وحياة خاصة بهم, هي بعيدة كل البعد عن المواطنين وهمومهم المستمرة والملتصقة بأجسادهم, لكن يبقى الأمل لمن سيوصل هذه الآلام والمتاعب لقياديي المحافظة ورأس هرمها, لعل وعسى أن نجد آذاناً صاغية وأيدي حانية تعمل على ما يعيد البسمة إلى أفواه غادرتها منذ زمن ويزيل تأوهات طالما ترددت في جنبات الأمكنة والزوايا المتناثرة كتاكيا قديمة هجرها مريدوها ومحبوها, وبقيت الرياح تجاوب نفسها في وقع أصداء لبحر لا يرحم..