سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عادوا منتصرين فاستقبلتهم الجموع, حملتهم على الأعناق ليُحملوا بعدها إلى السجون أو الاغتيال أو النفي والإبعاد.. موقعو وثيقة الاستقلال.. قتل.. نفي.. تشريد!!
طريق النضال محفوفةٌ بالمخاطر, يدرك المناضلون ذلك ويفهمونه جيداً, لكن البحث عن التحرر والاتجاه نحو تحقيق الأهداف لن يكون سهلاً أبداً, فلابد من المكابدة وتحمل تبعات النضال, فهي قاسية ومؤلمة, ومازال ألمها إلى اليوم جاثماً, ما بين ألم الضمير, وألم الحقيقة والبحث عنها من أجل الانتصار لمظالم كان ضحيتها الكثير, ممن شاركوا في حركات التحرر من الاستعمار ومن الإمامة أيضاً.. عائلات كثيرة في بلادنا مازالت تبحث عن فرد من أفرادها كان يوصف يوماً برجل من رجالات التحرير, تبحث عن الانتصار وإعادة الاعتبار للبعض ممن خُوِّنوا ومُورست عليهم التّهم التي هي باطلة كما تقول عائلاتهم, وهي من باب المكايدة السياسية لا غير, وأيضاً الانتقام من أصحاب الآراء المخالفة.. كما هو معروف بأن يوم الاستقلال كان خاتمة لسفر طويل من النضال, لكن حين يأخذك التنقيب في حياة موقعيه يُفجِعُك المصير, مصيرٌ امتزج فيه الألم والموت.. رحلة فريق لندن الموّقع على الاستقلال تحتاج لكثير من الدراسة والتوضيح, الفريق الذي ضمّ قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف, وسيف الضالعي, وخالد عبدالعزيز, وعبدالله صالح العولقي (سبعة), وعبدالفتاح إسماعيل ومحمد أحمد البيشي...عادوا منتصرين فاستقبلتهم الجموع بفرحة غامرة, حملتهم على الأعناق ليُحملوا بعدها إلى السجون أو الاغتيال وأقصر من كل ذلك إلى النفي والإبعاد.. رحلة بدأت مرارتها بعد عام من تسلمهم السلطة في جنوب البلاد حينها, ولم تنته إلى اليوم.. بتراجيديا موغلة في الحزن والأسى لرجال قدموا كل ما يملكوا بالفعل في سبيل هذا الوطن, مسطرين أروع البطولات والتي ربما ستظل تذكرها الأجيال, حتى وإن حاول البعض طمسها من الذاكرة, وأنى له ذلك.. قحطان أول رئيس للجمهورية في جنوب الوطن, وعى على الدنيا فوجد نفسه يتيماً كما هو الوطن الذي يعاني اليتم والقهر والخوف والتسلط والاستعمار, الفرق الوحيد أن وجد عمّاً يرعاه ويرعى شؤونه, على عكس وطنه الذي وقف وحيداً دون راعٍ حريص على مصالحه وتحرره, ولا جارٍ يهمه أن يعيش أبناؤه في رغد وصحة وتقدم وازدهار.. إذن هو قحطان الشعبي أول رئيس لليمن الجنوبي بعد الاستقلال.. الحلم ينتمي قحطان إلى إحدى القرى الصغيرة التابعة لما يعرف بمنطقة الصبيحة المترامية الأطراف, هي “شعب” التي غادرها حالماً ولم يعد إليها كما يبدو, درس في السودان وبدأ حياته السياسية من هناك, حين عودته انضم لما يعرف بالقوميين العرب الفرع الذي عمل على إنشائه ابن عمه ورفيق دربه فيصل عبداللطيف الشعبي العائد هو الآخر من مصر متأثراً بأفكار التحرر والقومية والوحدة, ثم ما لبثا أن خرجا عن صفوف التنظيم, إذ وجدا أنه لا يلبي رغباتهم في النضال من أجل شمال الوطن وجنوبه, فقحطان يرى بأن الجنوب لن ينال استقلاله إلا بعد أن يتحرر الشمال من أغلاله وكان ذلك.. اعتذار من الصدف أنه دخل السجن المصري بعد الخلافات المعروفة بين فصيلي النضال في الجنوب حينها جبهة التحرير والجبهة القومية, اعتذر له من قبل الزعيم المصري الخالد جمال عبدالناصر بعد هزيمة 67م بعد أن عملت مصر على مراجعة الكثير من سياساتها الخارجية ومنها اليمن بشقيه حينذاك, إذ في الفترة نفسها ورجالات اليمن وعلى رأسهم المناضل النعمان الأب يرضخون في الزنازين المختلفة من سجون مصر.. سجن وهو قحطان نفسه الذي تولى القيادة الثورية ومسار المفاوضات معاً عرف عنه الحكمة والحرص على وحدة الصف الثوري, ووقع وثيقة الاستقلال في جنيف ليعود إلى عدن ويعلن حكومة اليمنالجنوبي حينها التي استمرت أشهر تسعة ولم تكمل الحول إلا ويقاد إلى السجن ويظل فيه اثني عشر عاماً دون أن يعتذر له إلى اليوم وهنا المفارقة, بالإضافة إلى توضيح أسباب وفاته التي تعددت الأقوال عنها وبعضها تصل إلى أنه مات بإبرة سامة أعطيت له في المستشفى الذي نقل إليه للعلاج.. عبد اللطيف من أوائل القوميين العرب والحالمين اليمنيين بالخلاص, إنجازات كثيرة قوبلت بالجحود والنكران, هكذا يُخيل للباحث في سيرته, في سيرة فيصل عبداللطيف, الذي كان دينامو الثوار كما يبدو ومن المتنورين, رافق قحطان الشعبي في الكثير من المنعطفات التاريخية, وكان من الوفد المفاوض للاستقلال,. شغر منصب رئيس الوزراء في أول حكومة شكلت بعد العام 67م, وحين تمت العملية الانقلابية على حكومته اقتيد إلى سجن فتح, ومن ثم سجلت نهايته بمأساوية رهيبة وهو يموت بيد من شاركوه النضال في الأمس, وأيضاً الحلم الذي انحرف عن مساره الذي كان يبتغي التعددية فآثار القطب الواحد فلم تستقم المسيرة إلى اللحظة وإن مضى على ذلك عقود من الزمن فالمأساة مازالت تتكرر بشكل أو بآخر.. الضالعي من أبرز اللاعبين في معركة الاستقلال انتهى شهيداً أيضاً, لكن سيظل اسمه في سجل الخالدين, إنه سيف أحمد الضالعي, مازال اسمه محفوراً في ذاكرة اليمنيين, إذ قضى حياته مناضلاً جسوراً له الكثير من الإسهامات الثورية, بالإضافة إلى الحضور شمالاً كما هو في الجنوب, لكن قدره كان ضمن الوفد المفاوض والموقع على وثيقة جنيف التي نالت اليمن صك تحررها بعد عبودية دامت القرن والنيف من العقود.. اسهم في اختيار الفريق المشكل من الجبهة القومية الذي كان يشغل فيها رئيساً للمكتب السياسي, شغل منصب الخارجية في حكومة فيصل عبداللطيف الذي سبقهم في الاستشهاد ليتبعهم الضالعي سيف ورفيقه محمد أحمد البيشي في حادثة الطائرة المشؤومة, التي كان فيها من الشخصيات والكوادر اليمنية التي قل أن يوجد مثلهم.. فتاح شغل الناس حياً وميتاً أقل ما يمكن أن يقال عن عبدالفتاح إسماعيل, لعب دوراً كبيراً في الحركة النضالية اليمنية, كان من وفد قحطان وهو ما يهمنا هنا, كما رافقه في أول حكومة, وكان وزيراً للوحدة, كمؤشر واضح على اتجاه هذه الكوكبة وأهدافها المشتركة من أجل توحيد اليمن, وأن ذلك كان من أولوياتها والتي عملت على تأخيرها الكثير من المستجدات والظروف المختلفة وكثرة اللاعبين الذين ظهروا تباعاً.. ما يجمع فتاح ورفاقه من الوفد المفاوض أنه قتل أيضاً وإن كان متأخراً قليلاً, وذلك بعد مضي عشرين عاماً تقريباً, قتل في أحد شوارع عدن, المدينة التي شهدت أحلامه ونضالاته, والتي بخلت أن تجود له بقبرٍ يواري جسده المثخن بحبِّها, بل وحبِّ اليمن الكبير.. مأساة الاسمان الآخران والمتبقيان في هذه الرحلة بهما تكتمل المأساة المدعاة للتأمل كثيراً, خالد عبدالعزيز, وعبدالله صالح العولقي, غيبا طويلاً أحدهما لا يعلم أين يعيش وهو خالد عبدالعزيز فهناك من يقول أنه في صنعاء وآخرون يقولون أنه في عدن, والمهم في قصته أنه كان بطلاً أسطورياً وسيبقى خالداً وإن غيبته مرحلة من المراحل, سيأتي اليوم الذي سيذكر في المناهج التي لابد أن تتناول أمثال هؤلاء ممن خرجوا من المشهد دون شيء يذكر إلا إنهم حققوا أهدافهم, وأتى بعدها من يقطف الثمار.. أما العولقي فقد كان له مع المنفى حكاية, ربما كتب فيها سيرته, التي سيبين فيها الحقائق, ولماذا كتب له ولرفقائه ذلك المصير, الذي يشبه سرديات الخيال وما وراء الواقع لدمويته القاسية, التي ربما ما تزال آثارها إلى اليوم ماثلة.. لكن قد يستدرك المرء, لم كل ذلك, وكيف حصل..؟ فهي الحلقة المفقودة ضمن حلقات كُثر تكتنف تاريخ اليمن الحديث, إذ يبقى التساؤل كيف نكتب تاريخنا الحديث, ومن أي زاوية وفي إطار أي حدث, لابد من الهوية الجامعة, والتاريخ المشترك, فالاستقلال لابد أن يبقى حدثاً جامعاً ناضل من أجله اليمنيون في الشمال أو في الجنوب, زرعت الأشواك كثيراً من أجل عدم الوصول إلى الأهداف الحقيقية من ورائه, وهو البناء والنهوض باليمن الطبيعية كما تقول الكثير من أدبيات المناضلين ومنهم موقعو الوثيقة الذين أفضوا إلى ما أفضوا إليه وبقيت حكايتهم درساً لابد أن نتعلم منه الكثير.