طويلة هي حكايتي مع الكتب . لاأزال أذكر الكتب الأولى التي رأيتها في منزلنا حتى قبل أن أتعلم فك الحروف وتهجيتها . أكثر ما علق في ذهني من ذلك كتاب قديم جداً أوراقه صُفر، وبالكاد يمسك بعضها ببعض لقدم الطبعة، لم أعد أذكر الآن هل كانت تلك الطبعة تونسية زيتونية أم مصرية أزهرية، ولا كيف حط هذا الكتاب رحاله في خزانة والدي . كم كانت فرحتي كبيرة عندما تمكنت ذات صباح وللمرة الأولى من قراءة عنوانه "الرسالة". كنت آنذاك في أواسط عامي الدراسي الابتدائي الأول . عندما تعلمت فك الحروف خيل إليّ أني أصبحت أكبر عالم (بكسر اللام) في الكون . تصورت يومها، ولا أدري من أين ولا كيف أتاني هذا التصور، أن العالم هو من يتقن القراءة حتى وإن لم يفهم شيئاً مما يقرأ . ربما أتاني من الثقافة الشعبية التي ترى أن القراءة (القراية) والعلم شيء واحد، وأن العالم بالتالي هو القارئ (في اللغة الشعبية الجزائرية كلمة "قاري"تعني عالماً أو مثقفاً أي شخصاً واسع المعرفة والاطلاع) . كانت ثقافتنا الشعبية قديماً تمجد "القاري"وتعظمه وترى فيه عمود الدولة والمجتمع . أما اليوم فقد أصبح الناس يقولون: فلان مسكين قاري . أي هذا مثقف مسكين، ومسكنته وبؤسه نابعان من ثقافته أو تعلمه أو "قرايته"بالتعبير الشعبي . لم يخطر ببالي يومها أن أبحث عن اسم صاحب "الرسالة"ولا اهتممت لهذا الأمر، لأني قلت لنفسي: كتابه مشكول من أوله إلى آخره، فقراءته سهلة، والكتب المشكولة هي أسهل الكتب وهي عادة ما تكون موجهة إلى الصغار . ولو كان هذا الكتاب مهماً أو عميقاً لما وضعوا الشكل على حروفه . وفوق ذلك هو مطبوع بحرف كبير نسبياً، لهذا لا أظن أن صاحبه عالم كبير، بل لعله يكون من صغار العلماء أو من المغمورين . على ما بدا لي يومها، كان الكتاب مجرد "رسالة"من نوعية الرسائل التي كنا نتلقاها عبر البريد الجوي الورقي، قبل أن تنزل علينا "بدعة"البريد الإلكتروني، أطال صاحبها في كتابتها وفضل أن يشارك الناس همومه من خلالها . على رغم ذلك كله، لست أدري لماذا كانت هذه "الرسالةّ"تلقي في روعي هيبة لا توصف، كلما تصفحت أوراقها . المؤكد أني لم أكن أفهم كثيراً من الألفاظ والعبارات الواردة فيها . ولاأزال أذكر أيضاً أن أول كتاب قرأته وأعجبت به بل ربما تأثرت به، هو "الأيام"للدكتور طه حسين، ربما لأني تعاطفت مع شخصية الطفل الضرير . قبل نزولي في مطار دبي أول مرة، لم يكن أحد أخبرني أن الإمارات بلد الثقافة والكتب . وبما أن علاقتي بالقراءة كانت تماماً مثل علاقة المدمن بالمخدر، فقد اصطحبت معي ما لا يقل عن الخمسين كتاباً . وكان العدد مرشحاً أن يكون أكبر لولا أن الوزن المسموح به في الطائرة لا يتحمل أكثر من ذلك . جميع من عرفوني عن قرب في الجزائر عرفوا فوضاي الورقية التي ترتحل معي حيثما ارتحلت . الكتب والأوراق سرعان ما تهاجم وتغمر أي فضاء جديد أحل به . كثيرون من أصدقائي يرون في ذلك نوعاً من التلوث البصري وحتى المادي، لأن الكتب والأوراق تراكم الغبار، لهذا تكرهها النساء بشكل عام، بسبب هاجس النظافة الذي يسكنهن . وجودي في الإمارات جعلني أندم على ما حملته معي من كتب، لأن البلد أصلاً مزدحم بالكتب والصحف والمجلات . لا يمر يوم دون أن يقع بين يديك إصدار جديد من داخل أو خارج البلد . كتبي، وبعضها كان باللغة الفرنسية، شغلت حيزاً كبيراً من خزانتي الضيقة أصلاً حتى لم أعد أعرف أين أضع الكتب والمجلات التي كانت تصلني بشكل يومي من مختلف الدوائر والمؤسسات والأفراد . ما حدث لي في الجزائر تكرر في الإمارات . كنت كلما غيرت محل إقامتي اضطررت إلى ترك بعض كتبي أو كثير منها عند أحد الأصدقاء . أذكر مرة أن صاحب السكن اضطرنا، لأسباب لم يفصح عنها، إلى ترك المكان في ظروف استعجالية أخرجتني مثل المجنون من مقر "الخليج"لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كتبي أو نقلها إلى مكان آخر تحت تهديد صاحب المكان بالتخلص منها أو تركها على قارعة الطريق لمن يريد أن يأخذ . بشق الأنفس وبمعونة أحد الزملاء، تم إنقاذ الكتب كلها هذه المرة . خزانتي لم تكن تكفي الكم الهائل من الكتب التي بدأت تتجمع عندي . لهذا بدأت أضع ما وصل منها لاحقاً في حقائب أو "كراتين"تحت السرير، على رغم احتجاجات صاحب البيت، لأن الكرتون كما قال، يراكم الغبار وهذا أمر غير صحي بالمرة . لكني كنت أجيبه بطريقة دبلوماسية جعلته شيئاً فشيئاً يغض الطرف عن الموضوع . كان شاباً أردنياً يتفجر حيوية، وكثيراً ما كانت لنا أحاديث وحوارات عن الواقع العربي الذي لا تنقصه القضايا الساخنة . ما شد انتباهي إلى مكتبة "الخليج"وجعلني أقضي فيها ساعات طويلة خارج وقت العمل الرسمي، هو احتواؤها على عدد كبير من الكتب والدراسات والأبحاث والمعلومات عن محور الوطن العربي وحركة النهضة العربية الحديثة، وبشكل أكثر دقة: القومية العربية، تاريخها، أعلامها، تنظيماتها، همومها، واقعها ومستقبلها، فضلاً عن القضية الفلسطينية وكل ما يتفرع عنها من هموم ومآلات عربية وعالمية . كما شدت انتباهي بشكل خاص مكتبة مدير التحرير، حيث لاحظت وجود عناوين لم تكن موجودة في مكتبة الجريدة . ترددت قليلاً في البداية ثم استأذنت المدير في قراءتها . أما هو فلم يتردد في الموافقة مبدياً سروره وترحيبه وقال: المكتبة كلها تحت تصرفك، اقرأ ما بدا لك . وفعلاً بدأت أقرأ وأصور ما يهمني من صفحات لأبحاثي الخاصة . لم تكن عندي أماكن كثيرة أذهب إليها خارج أوقات العمل . فإذا لم أكن مع الأصدقاء في سهرة عند أحدهم، فأنا إما في البيت وإما في مقر الجريدة، حيث كنت أنسى نفسي بعد ساعات الدوام الرسمي بل أقضي الليل كله أحياناً، علماً أن "الخليج"خلية نحل لا يتوقف بها العمل ليلاً ونهاراً . حتى قيل لي مرة: لقد حطمت الرقم القياسي في المداومة . في البيت لم يكن لي شغل سوى المطالعة أو مشاهدة نشرات الأخبار وأحياناً الأفلام أو بعض البرامج الأخرى . لم يكن ثمة سوى السهرات مع الأصدقاء لإخراجي من الروتين اليومي، تلك السهرات التي كان تستمر غالباً حتى الصباح ويحتدم فيها النقاش كثيراً حد الخصام أحياناً، في الفكر والسياسة والتاريخ وغير ذلك من الشؤون . فهذا مع الموقف الفلاني والآخر يقف على النقيض وكل يطرح حججه . كنت أستمتع حقاً عندما يدور الحديث على الذكريات القديمة التي يرويها الحاضرون عن علاقاتهم المختلفة داخل مجال الإعلام وخارجه، خاصة أن أغلبهم من أصحاب التجارب الإعلامية الطويلة، يعود بعضها إلى مطلع الستينات من القرن الماضي وربما قبل ذلك . كانت تلك النقاشات على سخونتها واحتدادها في أحيان كثيرة، مفيدة وعميقة إلى درجة لا يمكن تصورها . المعارض السنوية التي تنظم في الإمارات هي الأخرى كانت تأتي لتكسر الروتين اليومي . معرض الشارقة الدولي للكتاب كان ملتقى مميزاً للفكر والإبداع، ملتقى لجديد الإصدارات وأيضاً للحوار عن الراهن الثقافي . من جهة العرض كان فضاء "إكسبو"يزدحم بالناشرين وجديدهم . أما من جهة الاقتناء فكانت قدرتي الشرائية محدودة . لذلك كنت أكتفي بما هو ضروري من العناوين التي أعرف أني ربما لن أعثر عليها في مكان آخر . ومن ذلك المطبوعات السودانية، حيث كانت لي فرصة التعرف إلى الناشرين السودانيين وأخذ فكرة عن المشهد الثقافي السوداني بشكل موسع لأول مرة في معرض الشارقة، لأن السودان لم تشارك أبداً في معرض الجزائر الدولي للكتاب ولست أدري لماذا . في معرض الشارقة اكتشفت تاريخ السودان وتنوعاته الإثنية والفكرية والثقافية، رغم معرفتي بالكثير من رموزه، لكن الصورة اتسعت عندي كثيراً في الشارقة، ما دفعني إلى حضور العديد من الندوات التي نظمها النادي الثقافي السوداني في دبي، فضلاً عن علاقتي المتينة بالزملاء السودانيين في "الخليج«، والذين استفدت من حواراتي معهم في الشأن السوداني بشكل عام . تجربة معارضية أخرى فريدة من نوعها كانت لي فرصة المشاركة فيها والإفادة منها، هي معرض الكتاب المستعمل في دبي والذي ينظمه مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث . في هذا المعرض وجدت كتباً لم أكن أتصور أني سأجدها يوماً ما . طبعات قديمة نفدت من الأسواق منذ زمن طويل بأسعار جداً معقولة وأكاد أقول رمزية بالنظر إلى أهمية وقيمة تلك الكتب . أحد المنظمين نصحني بزيارة المعرض في اليوم الأول لافتتاحه بل الساعة الأولى، لأن الكتب الجيدة تختفي بسرعة . وفعلاً هذا ما لاحظته عند افتتاح المعرض، حيث "انقض"الزوار وبسرعة خاطفة على أهم الكتب المعروضة، وكان لي أنا أيضاً من الغنيمة نصيب . أذكر من بين ما وجدت كتاباً موسوعياً مهماً في تاريخ الأدب الأندلسي . ومن أكثر ما اهتممت به في مركز جمعة الماجد، المخطوطات التي تصدر محققة عن المركز، إضافة إلى مجلة "التراث"الأكاديمية التي تعنى بالشأن التراثي والثقافات الشعبية بشكل عام . لا يمر يوم في الإمارات دون أن تسمع عن إصدار جديد أو بيع بالتوقيع في إحدى المكتبات العامة، أو احتفاء بصدور رواية أو مجموعة شعرية جديدة . ومن كثرة ما يصدر تزدحم أحياناً هذه المناسبات حتى لا تدري أين ينبغي أن تحضر . هذا الموضوع يتسبب في بعض الإزعاج أحياناً عندما تصطدم اعتبارات العمل الإعلامي مع اعتبارات الزمالة والصداقة، حيث تضطرك التغطية الإعلامية إلى الغياب عن موعد ثقافي خاص بزميل أو صديق .