إنها الحيرة . . . تقرأ اللوحة، وأنت توزع نظراتك في الجهات الأربع، في محاولة منك أن تكتشف بعض ما تبحث عنه، منذ بضعة أيام من أسبوعك الأخير، حيث تمغنطك جمالية الاسم، في انجذاب الشاعر أو الصحفي الحرِّيف، لاسيما عندما وجدتك فجاءة، تسترسل هارعاً إلى حضن إلى الماضي، مع إيقاع اللغة، وأصداء المعارف، وهطول حبر الكتب القديمة، ورجع أصداء القصائد التي ولدت ضمن هذا الحيِّز الجغرافي، كي تجعل منه منطلقها، وهي تحلق عالياً، لتروي حكاية إنسان ومكان وقصيدة . دورة الزمان، توثق المساحة، في أشكال، وأطياف، وقصص، وظلال، تبثُّ فيها أساطين الحياة، من جديد، ترفع دثار الغبار المتراكم عن حبر الكراريس، لاشيء لك في صلاتك - هنا - غير إرث من ملاحم وقصائد، تنوس بين الفصيح والمحكي، بأسمائه، وأوصافه، وعلاماته الفارقة، تحيل إلى تفاصيل المكان، المكان . . عينه، وجوهاً، وملامح، ولغة، تمتُّ بعرى، وأواصر، وصلات، بالمعيش، كأن لا فصام بين هاتين المحطتين، سوى ارتقاء هندسة المكان، لتعود إليك البيوت، في هيئتها الجديدة، تنفتح أبوابها، أنى دلفت إلى ما ورائها على نباهة الأهلين، وهم يشقون عباب البحر، في ساعات استبداده، ماضين إلى مدن شقيقة، أو غريبة، ترطن بإرث معاجمها، إذ تؤجج في دمائهم دماثة أسئلة التوق، وهم يخطفون في جيوبهم الكواكب الصغيرة، وغنائم العلوم وكنوز البحر، أعطيات الفجاءة الجميلة: هي الحيرة وتشير إليها بسبابتك . .! هو أنت إذاً، بعد كل هذا اللهاث والغبار ضيف الشاعر في إيوانه ضيف الحيرة الحائر لائذاً بهما في لحظتك الضيقة الحيرة الشاعر نفسه . . تستوقفك القصائد، لاهثة، تحت شمس فبراير، كل منها تكشف عن دررها، وصورها، ديواناً لمكان وزمان وإنسان، لا تفتأ تجسر بينك وروحها، كي تستطلع في مراياها كل ما تروم، من دون جواز سفر، أو بطاقة طائرة، أو تأشيرة دخول، توجز فضاء من تفاصيل وأيام، وخطا، ولهاث . يحمحم الخيل عائداً إلى هاتيك المحطات، يتوزع الغبار الواثق، على وقع سنابكه، في الحد المرهف بين البحر واليابسة، حيث الحياة التي تضجُّ في اللغة، تترجم الشكيمة، والجَلَد، في مواجهة القراصنة، والعابرين، وأبخرة، لا تتعب، تواظب عليها مراجل البحر، مجدداً مجده العتيد . إنها الحيرة . . . أجل . . تعود إلى ذاكرتك القريبة، تسترجع منها بعض رؤوس الأقلام التي تركتها خلال الشريط الزَّمكاني القريب، وأنت تضع تحت مجهر قراءتك اسم الحيرة، تتخلص من حيرة لازمتك حتى لحظتك، كي تبدي اندهاشك، مستكشفاً أن عين الفعل حير جيم في الأصل، قبل إبداله، جرياً على عادة أبناء المكان في تحويل هذا الحرف بوريثه، حسب لكنة الخليجي، لتكون بذلك قبالة - الحجرة - التي تسحر مخيلتك، متجاوزة الجدران، عقداً وراء عقد، تصيخ السمع إلى أصداء حديث طلاب العلم، مترددة في الأفق، كل يلوذ بحججه وأسانيده، يحيلها إلى أرقام صفحات الكتب: هنا كانت مدرسة الأحمدية هنا كانت مدرسة السالمية هنا كانت مدرسة الفلاح هنا كانت المدرسة التيمية المحمودية هنا كانت مدرسة الإصلاح الأم ورسم عبدالله بن صالح المطوع يترأ رأ، إلى جوار قافلة من الأسماء هنا مكتبة الإصلاح والشيخ محمد المحمود هنا صحيفة عمان وآثارأصابع إبراهيم بن محمد المدفع وأحمد بن حديد وحمد بن إبراهيم المدفع هنا الشاعر سالم بن علي العويس هنا الشاعر خلفان بن مصبح هنا الشاعرالشيخ سلطان بن صقر القاسمي ثم يأتي الموكب تترى، يروي كل منهم جزءاً من الحكاية، في تحيته، تشبه متن الحبر الذي انطلقت منه، لا سبيل لك إلى أبعاد الشكل إلا أن تترجم همس الرواة واحداً بعد آخر، مشفوعاً بالأرقام، والتواريخ، والأسئلة الظامئة، يلقون نظرتهم على مشهد البرهة، في تحولاته العظمى، يغبطون القاسم المشترك الأعظم بين زمانين، هما الأمس واليوم . يمشط الهواء محيط الرؤية، من الجهات كلها، ضمن دورة كبرى، يندمج الزمان فيها بالمكان، الأمواج تهيج تترى، تحت أشعة شمس اليوم، ترسل زمجراتها في رسائل بريدية، يتلقاها الناس في عناوينهم المتقاربة، وهم يجرون سدرة الظلال وراءهم، قطارات من ألق، وغبطة، لا موشور يخطئهما، وهو يوزِّع الألوان في قسمة أولى، تعكسها أجنحة الطيور، وشموخ الأفق، وأغصان الأشجار العالية، في احتمالات لا تنطفئ . إنها الحيرة . . . . . أجل . . . . - ثمة ما هو استثنائي دائماً . هكذا تقول في نفسك وأنت تقطع المكان بتؤدة، متتبعاً أثراً ينوس بين قصيدة لشاعر، وأسطورة يرويها تاجر اللؤلؤ، يشد إليها جليسه، في استراحته القصيرة، كاشفاً بعض أسرار هذا البحر، تصيخ إليه اليابسة السمع، في تؤدتها، كي تستحثه هي الأخرى، إلى أسرار وغرائب لا تنتهي، وكأن نوستالجيا الأمكنة كلها، تظلُّ مشتعلة في دمه، حتى وإن كان ثمة مكان أوحد، يبقى سيد كل هاتيك العناوين جمعاء .