على عكس الأجواء الحالمة التي ترافق نتاجه الإبداعي فإن واقع عازف العود العراقي نصير شمة يحمل الكثير من المعاناة والصبر والجلد، فابن مدينة الكوت العراقية الذي نجا من حكم الإعدام بإعجوبة، بعد أن قضي سنوات عدة في الاعتقال إبان حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، واضطر إلى العيش خارج الوطن 19 عاماً، لم يغفل عن دعم القضايا العربية والإنسانية الكبرى، بدءاً من دعمه لضحايا الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ثم تدشينه حملة تبرعات لضحايا حربي الخليج الأولى والثانية من أطفال بلاده، وتأسيس جمعية «أطفال الزهور»، وصولاً إلى المرحلة الحالية التي لم يفارقه فيها إحساسه بالمعاناة، على الرغم من استقراره منذ نحو 15 عاماً في العاصمة المصرية القاهرة، من دون أن يتخلى عن قناعته بأن «العود قادر على صنع العجب»، حسب تعبيره، في ما يتعلق بنصرة الشعوب العربية، ودعم موقعها في سياق الحضارة العالمية. مثالان قدم عازف العود العراقي الفنان نصير شمة مثالين حول قناعاته بأن تعلم الموسيقى يعد واقياً أساسياً للنشء من تشوهات سلوكية وأخلاقية ونفسية يمكن ان تهدده، مضيفاً في ما يتعلق بأولهما «هناك طفل عراقي نجا هو وأبوه من مجزرة ارتكبها الجيش الأميركي في مدينة ديالا العراقية، نجم عنها مقتل تسعة من أفراد عائلته». وقال إن «الوالد نما إلى سمعه بالمصادفة نشاط (بيت العود)، فقرر اصطحاب ابنه إلى القاهرة من أجل الالتحاق به، بعد أن أخبرني بأن ما يسيطر على ذهن نجله هو الالتحاق بمعسكرات لإرهابيين، كاشفاً عن أنه عثر معه ذات مرة على حزام ناسف». وذكر شمة أن الطفل الذي تعلم الموسيقى في بيت العود أصبح عازفاً بارعاً بعد أكثر من عامين قضاهما في القاهرة، بل ويستعد لحفل تخرجه خلال هذا الشهر. فيما أشار في المثال الثاني إلى حالة مراهق مصري اشتكى ابواه تطاوله على إخوته وعائلته، في حين أن جميع أفراد الأسرة لمسوا بأنفسهم التغير السلوكي الإيجابي بمجرد شروعه في دراسة الموسيقى التي يستكملها حالياً في باريس. «الإمارات اليوم» التقت شمة في حوار لم يتسيّده العود، وإنما الشأن العربي من وجهة نظر مبدع يؤمن بأن الناطقين بلغة الضاد، بالفعل، «في الهم شرق»، عبر قناعة مؤداها أن تراجع منزلة العود وقلة الاحتفاء به إبداعاً وتذوقاً قرين حالة تراجع في المشهد الاجتماعي والثقافي والفكري عربياً على مر العصور، مضيفاً «العود الآلة الموسيقية الوحيدة التي احتفظت بوجودها على مر العصور، وكانت ذات الحضور الأبرز في أزمان سيادة الحضارة العربية، وإلى وقت قريب كان العود حاضراً أساسياً في جهاز العروس في بلاد الشام، وأدى تقلص حضوره إلى تشوهات كبرى في الواقع العربي وليس في المشهد الموسيقي فحسب». رد الجميل القضية رقم واحد الآن في رأس أهم لاعب على أوتار العود العربي، حسب الكثير من أعلام الموسيقى العربية، هي الأجدر بأن تكون فاتحة حوار على هذه الشاكلة، إذ يؤكد شمة الذي استبق زيارات نجوم عالميين وعرب، منهم انجلينا جولي، وحسين الجسمي، إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، وأطلق مبادرة «كرافان لكل عائلة» من أجل إغاثة اللاجئين السوريين، أن «الأوضاع في الشقيقة سورية هو شغلي الشاغل حالياً»، مضيفاً «الموسيقى لا يمكن أن تنفصل عن الحياة، فما بالنا إذا كنا أمام شعب بات يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، في ظل طاغية لا يرحم، وبرد تستحيل معه حياة العراء التي يعانيها كثيرون من أبناء الشعب السوري، سواء من أجبروا على التهجير تحت وطأة عدوان قائد على شعبه، أو من تمسكوا بالمكان الذي يتخضب يومياً بدماء الضحايا». وتابع شمة، أن «الشعب السوري كان الحاضن الأول للعراقيين في محنتهم، وعندما صرحت حينها بأن الشعب العراقي عليه أن يرد الجميل، لم أكن أتوقع أن يصاب بذات لعنة التهجير القسري من الوطن». حيادي مغلوط تسييس الفنان، إن جاز التعبير، أمر لا يقبل به شمة رغم ذلك، إلا أنه يفرق بشكل واضح بين مضمون هذا المصطلح، وحقيقة أن يبقى للفنان موقف واضح مما يدور حوله، ويتحمل مسؤوليته من دون تلون، مضيفاً «ما معنى أن يثور وطن بأكمله، وتبقى أنت كفنان ذي شعبية كبرى محايداً، غير أن يكون الأمر مرتبطاً بحسابات شخصية، وهنا على الفنان أن يختار بين قناعاته الحقيقية والمكاسب القصيرة الأجل التي تربطه بشخصيات بعينها، لأن أي صراع وإن طال سينتهي، وحتماً ستكون كلمة الفصل للشعوب». الانتقال إلى الحالة المصرية كان يعني إجابة شمة عن سؤال بادر هو بطرحه، مؤداه «كيف يعيش فنان في القاهرة وينأى بنفسه عن التفاعل مع ثورة شعبها؟»، مؤكداً «لقد نزلت مع المتظاهرين في ميدان التحرير، وتعايشت مع يومياتهم، وتناوبت على حماية المنطقة التي أسكن فيها في حي الدقي في الأوقات العصيبة من الثورة». إشارات خطرة تفاعل شمة مع الأحداث لم يكن على الأرض فقط، بل إن الفنان العراقي الذي يؤمن بأن الحدود السياسية بين الأوطان العربية لا تحول دون وحدة الحالة الثقافية والوجدانية لدى الإنسان العربي متى وُجد، بل كان إبداعياً أيضاً «طيلة هذه الأعوام التي أقمت فيها بالقاهرة لم أنجز أعمالاً خاصة بمصر، لكن هذا حدث لأول مرة وبغزارة أثناء وبعد الثورة، فالشعوب العربية تجاوزت إحساس القطرية، لكن الحكومات تذكرنا بها دائماً في بوابات مرورنا في المطارات المختلفة». رغم ذلك لا يخفي شمة قلقه من سيطرة اتجاهات لا تقدر أهمية الموسيقى في المجتمعات العربية، خصوصاً في ما يتعلق بدول ما اصطلح على تسميته «ثورات الربيع العربي»، مضيفاً: «تم تسريب مقولات سياسية في تونس تؤشر إلى تهميش القوة السياسية الحاكمة في تونس للموسيقى والفنون عموماً، وهي ذات الإشارات التي لمستها أيضاً في مصر، وبدأ حامل الآلة الموسيقية يجد من يستوقفه في الطريق العام، ناصحاً له بأن يجد لذاته مصدر رزق آخر، بناء على خلفية دينية مغلوطة، وهي مواقف يجب ألا نستهين بها من أجل ألا نفاجئ بأن التغيير الجديد الذي تحمسنا له يقودنا قسراً إلى الخلف وليس إلى الأمام». ورأى شمة أن «الصدام قادم لا محالة بين أنصار المجتمع المدني ومتبني وجهة النظر الإسلامية في الحكم، رغم أن الأولى برجل الدين أن يكون دائماً بمنأى عن السياسة، وغلبة التيار المدني في الأخير قد لا تأتي إلا بعد أن يكون المجتمع نفسه قدم فاتورة باهظة لهذا الصراع». خيار لازم عودة دروس التربية الموسيقية إلى المدارس العربية التي افتقدتها، واستحداثها بالنسبة للأجيال التي حُرمت منها تماماً، هو خيار لازم بالنسبة لشمة، من أجل «إصلاح البنية الثقافية والحضارية للمجتمعات العربية، لذا أطالب بعودة الموسيقى درساً أساسياً في المنهاج التربوي، فالتصحر الفكري هو المسؤول الأول عن التطرف بكل أشكاله». وقدم عازف العود العراقي ما يشبه «الوصفة» للأسرة العربية من أجل تهذيب أبنائها وتثقيفهم بواسطة الموسيقى «في صدارتها وجود آلة موسيقية واحدة على الأقل في كل منزل، ومن لم يستطع لظروف مادية أو غيرها تلبية هذا الأمر فأمامه إمكانية تربية النشء على سماع نخبة من الأعمال الكلاسيكية العربية التي يمكن حتى تحميلها من مواقع مجانية في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، فضلاً عن حضور الحفلات الموسيقية، في حين تشكل خطوة الالتحاق بأحد مراكز تعلم الموسيقى المعتمدة خياراً شديد الأهمية. وقدم شمة مشروعه الشخصي «بيت العود» أنموذجاً في هذا الإطار، مضيفاً «تم إنشاء أول مقر لبيت العود في مصر منذ نحو 14 عاماً، وخرّج أجيالاً متعددة من الموسيقيين الذين تمكنوا من شق طريقهم، في حين تم العمل على تدشين مقار أخرى متعددة له في مدن وعواصم عربية عدة، من ضمنها العاصمة الإماراتيةأبوظبي»، كاشفاً عن وجود مخاطبات لفتح مقر جديد في دبي. وأشار شمة إلى أن تدريس الموسيقى بمثابة «تحصين للأطفال والناشئة، ووقاية فاعلة لهم من مهددات أخلاقية ونفسية ومجتمعية باتت أقرب إليهم أكثر من أي وقت مضى»، مضيفاً «التلوث السمعي وغياب الذائقة الجمالية بمثابة مرض لا ينبغي انتظار أن يهاجم فيروسه صغارنا، وتبقى فيه الوقاية الموسيقية أكثر نجاعة من علاج الذوق بعد فساده». جناحا الحضارة رأى شمة أن انفتاح دبي في السنوات الأخيرة بشكل خاص على عوالم الثقافة والفنون، جاء ليوائم بين شقي الحضارة المادي والمعنوي، مضيفاً «عندما قمت بالعزف في آخر زيارة لي في دبي في مقر ندوة الثقافة والعلوم بالممزر أمام حشد كبير من الجمهور، أيقنت أن الإمارة التي ضربت مثالاً استثنائياً في تحويل الصحراء إلى جنة ومركزاً عالمياً للتجارة والاقتصاد ماضية قدماً في الموازاة بين جناحي تقدم الأمم والشعوب».